من الذي أعطى «إسرائيل» الحق بأن تكون «شرطيًّا» وهي المتهمة بارتكاب جرائم حرب واسعة وجرائم ضد الإنسانية؟
كيف يكون المجرم قاضيا أو شرطيّا أو مؤتمنا على أرواح الناس وممتلكاتهم؟ ما هو هذا العالم الذي يلتزم الصمت أمام محاولات مصادرة مواقفه وسياساته من قبل كيان يُفترض أن يَمثل رئيس وزرائه أمام محكمة الجنايات الدولية؟ إنه الصراع المتكرر بين القانون والقوّة، بين العدالة والبلطجة، وبين تواضع الحق أمام استعلاء الباطل. وعندما وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام خيار تفعيل الآليّات الدولية ذات الاختصاص في قضايا شائكة مثل البرنامج النووي الإيراني، أو السماح لنفسها أو حلفائها بممارسة دور الشرطي، اختارت الخيار الثاني، وسمحت لكيان الاحتلال بتصدر المشهد وكسر القوانين الدولية واستخدام القوّة ضد الآخرين بدون خشية من رادع سياسي أو قانوني.
وسوف يسجل التاريخ أن الإدارة الأمريكية هي التي ضربت القانون الدولي في الصميم بتهميش الآليات الدولية وإضعاف دور الأمم المتحدة وضرب قيم العدل والحق. فما مصير العالم إذا استمرت هذه العقلية والتزمت دول العالم بالمراقبة السلبية والخشية من ردود فعل أصحاب القوّة ومالكي السلاح المتطور؟ لقد تلاشت مبادئ التعايش السلمي وتمتين العلاقات الودّيّة بين الدول والشعوب، وتضاءل الاهتمام بالعمل المشترك، ونزعت دول كبرى مثل أمريكا للعمل الأحادي وضعف التبادل الثقافي بين الشعوب والأمم، كل ذلك بسبب تعمق الشعور بالقلق والخشية من الآخر.
ليس جديدا القول إن «مَن أمن العقوبة أساء الأدب» وإن غياب إرادة الفعل الإيجابي من قبل دول العالم القادرة على تحقيق شيء من التوازن والحفاظ على قدر من العدالة والأمن، من أسباب هذا التراجع القيمي الذي يهدد أمن العالم وسلمه. ففي المقام الأول يُفترض أن تكون الأمم المتحدة من خلال جمعيتها العمومية أو مجلس الأمن الدولي المسؤول الأول عن ضبط قضايا الأمن والسلم في العالم. وفي المقام الثاني يُفترض أن تمارس الدول الكبرى دورا لدعم العمل الدولي المشترك من خلال الأمم المتحدة، خصوصا أمريكا وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي. وفي المقام الثالث ثمة دور للدول الكبرى في العالمين العربي والإسلامي إزاء قضايا الأمة خصوصا مصر وإيران وتركيا وباكستان وأندونيسيا. فلو قامت هذه الدول مجتمعة بدور إيجابي لتبنّي قضايا الأمة والدفاع عن الدول أو الشعوب المضطهدة خصوصا شعب فلسطين لتغير الموقف جوهريا، ولما استطاع الاحتلال فرض إرادته بالقوة المدعومة من أمريكا وحلفائها. لو علمت «إسرائيل» أن بلدا مثل تركيا سوف يقف عمليا بجانب فلسطين وأهلها ويسحب اعترافه بكيان الاحتلال ويسحب دبلوماسييه من تل أبيب، ويوقف تعاونه الاقتصادي معها، لأحدث ذلك تحوّلا في ميزان القوى. كان ذلك الموقف متاحا في مقاطع تاريخية عديدة من بينها حادثة الاعتداء الإسرائيلي على قافلة الإغاثة التي حاولت في العام 2010 كسر حصار غزة ونقل مساعدات إنسانية للجياع هناك.
إن الإصرار الغربي على ضمان التفوق العسكري الإسرائيلي في المنطقة من أهم أسباب استمرار الأزمة وتداعياتها الإنسانية والأخلاقية والسياسية. هذا الإصرار دفع الغربيين للتخلّي عن التزاماتهم الإنسانية على صعدان شتى: أولها استمرار الاحتلال برغم صدور قرارات دولية من بينها 242 و 338 ترفض احتلال المزيد من الأراضي في حرب 1967، فلم يرفع الغربيون ساكنا إزاء هذا الاحتلال، بل تعايشوا مع «إسرائيل» واستمروا في سياسات دعمها والتغاضي عن جرائمها ليس في تلك المناطق فحسب، بل حتى ما تمارسه مع الجيران خصوصا لبنان وسوريا.
توسع الدعم الإعلامي والشعبي على صعيد العالم للشعب الفلسطيني، فما من مسيرة تخرج في العواصم العالمية إلا وتتجاوز في بعدها الإنساني ما يتوقعه الكثيرون
هنا تم تجميد الضمير الغربي ومنعه من التحرّك ضد العدوان أو المطالبة بوقفه أو دعم ضحاياه. ثانيها: لم يتخذ الغربيون أي موقف عندما شنت «إسرائيل» عددا من الاعتداءات خارج حدود فلسطين، فقصفت طائراتها أهدافا في تونس ولبنان وسوريا وإيران والعراق واليمن. كما تدخلت عمليا في السودان ودعمت التمرّد والانشقاق الذي أدّى الى تقسيم ذلك البلد. وما تزال تتدخل لدعم محاولة الانشقاق في دارفور. كما أن لها دورا في أزمة المياه بين مصر وإثيوبيا، وترى في إشغال مصر بنزاعات أخرى فرصة لإضعاف الجبهة العربية التي يُفترض أن تقدم الدعم للفلسطينيين. الغربيون من جانبهم، أصروا على سياساتهم القديمة الداعمة بلا حدود للاحتلال، والمتغاضية عن جرائمه التي صُنّف بعضها ضمن الجرائم ضد الإنسانية. وبرغم ما يتحدث عنه الغربيون من حرص على دعم الأمن والسلم الدوليين، فقد ساهمت سياساتهم بإطالة أمد الصراع في الشرق الأوسط، وخذلوا الفلسطينيين الذين تعرضوا للمجازر المتواصلة. فقد تجاوز عدد من قتل من الفلسطينيين في اقل من عامين أكثر من 60 ألفًا، بدون أن تنطلق الدعوات من الغرب لمطالبة «إسرائيل» بالتوقف عن هذا القتل الإجرامي.
وبرغم النداءات الفلسطينية لوقف التوسع الإسرائيلي في فلسطين وقضم المزيد من أراضيها ودعم إقامة دولة فلسطينية، لا يبدو الغربيون مستعدّين للدخول في مهاترات مع نتنياهو. ويخشى هؤلاء من انزعاج أمريكي صاخب يضعف التوافق الغربي خصوصا ضمن إطار حلف الناتو. ولكن «إسرائيل» تمارس سياساتها الاستيطانية بدون توقف وترفض الاستماع للشجب والاستنكار الغربيين. وقد عمدت في الفترة الأخيرة لبناء المزيد من المستوطنات في الضفة الغربية. وللتعتيم على ذلك يتم استهداف الجهات المناوئة للسياسات الإسرائيلية. فثمة ضغوط مكثفة على إيران لتخفيف انتقاداتها للممارسات الإسرائيلية أو دعم الأطراف الفلسطينية أو اللبنانية التي تقاوم الاحتلال.
وقد تكبّدت إيران بسبب سياستها الداعمة للفلسطينيين والمناوئة للاحتلال خسائر مادّيّة كبيرة وأصبحت في مرمى الغرب خصوصا أمريكا بسبب تلك السياسة. وبعد الحرب التي تعرضت لها ما تزال هناك خشية من اعتداء أمريكي ـ إسرائيلي مشترك لضرب المنشآت الإيرانية لمنعها من إنتاج الصواريخ التي أثبت بعضها قدرته على الوصول الى العمق الإسرائيلي. وكانت الضربات التي وصلت إلى تل أبيب مؤثرة جدا، الأمر الذي أدّى إلى شعور الأطراف بأن الوضع بلغ حالة من توازن الرعب بين طهران وتل أبيب، وأن التفوق العسكري الإسرائيلي لم يعد قائما بشكل حاسم. ومن الضروري الإشارة إلى ضرورة تحقيق قدر من التوازن العسكري على أيدي حكومات الدول العربية. فما جدوى الصفقات العسكرية العملاقة إذا لم تساهم، ولو بشكل محدود، في دعم القضية الفلسطينية؟ وماذا يعني استحواذ ترامب على مئات المليارات من الدولارات المسلوبة من الدول العربية؟ لماذا لم يكن هناك مقابل من الجانب الأمريكي لهذا «السخاء» العربي؟ لماذا ينجم عن ذلك حالة الجوع والإنهاك خصوصا في أوساط الأطفال في فلسطين؟
إن من الصعب طرح تفسيرات واقعية للتخاذل العربي والإسلامي، إلا باستحضار الضغوط الأمريكية على الدول العربية وتخاذل العالم عن فلسطين وأهلها. هذا مع الاعتراف بتوسع الدعم الإعلامي والشعبي على صعيد العالم للشعب الفلسطيني، فما من مسيرة تخرج في العواصم العالمية إلا وتتجاوز في بعدها الإنساني ما يتوقعه الكثيرون. فقد توسعت دائرة التعاطف الإنساني مع فلسطين وأهلها، وأصبحت أمريكا وحليفاتها في حالة من التوتر والغضب. ولولا الدعم الأمريكي غير المحدود لكان كيان الاحتلال في وضع آخر. صحيح أن لديه إمكانات عسكرية هائلة ولكنه يفتقد الأرضية الأخلاقية والإنسانية ويعاني من تصدعات بنيوية يطفو بعضها حين تشتد الأزمات. ويعتبر إصرار الاحتلال على التوسع خصوصا في بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية واحدا من أبشع الجرائم، لأنه يحدث على أرض محتلة بعد إقصاء أهلها، ويتم برغم تجريمه من المشرّعين الدوليين. ويصرّ الإسرائيليون على الاستمرار في هذه الجريمة لعلمهم أنهم لن يتعرّضوا لعقوبات رادعة. فقوات الاحتلال تقتل من يعترض على ذلك حتى لو كان مواطنا أمريكيا. ألم تُقتل الناشطة ريتشيل كوري الأمريكية في 16 مارس 2003 عندما اعترضت جرٌافة إسرائيلية كانت تقوم بهدم منازل الفلسطينيين بحيّ السلام في مدينة رفح بجنوب غزّة؟
وهكذا أصبح العالم أمام امتحان أخلاقي وإنساني إزاء قضية فلسطين، ولا يبدو أنه حقّق إنجازا كبيرا في هذا الامتحان. ولكي يمكن إنقاذ العالم من التهاوي القيمي تضاعفت مسؤولية النشطاء والمثقفين والسياسيين لتغيير نظرة العالم لعدد من المفاهيم على رأسها معاني الحرّيّة والحق والاحتلال وحق تقرير المصير ووجوب التصدّي للظلم والاحتلال.