المقالات

عدن ما بعد 30 نوفمبر

بقلم\ أحمد ناصر حميدان

30 نوفمبر 67م ذكرى رحيل آخر جندي للمحتل البريطاني من أرض الجنوب اليمني، تتويج لنضال وطني ومقاومة شرسة لشعب تواق للحرية والاستقلال، بكل أطيافهم وألوانهم السياسية والفكرية، اليساري واليميني والإسلامي والعلماني، القبلي والمدني، خليط من الثقافات والأفكار، ما يميز عدن حينها، تنوع أثرى الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية، كانوا جميعهم في خندق واحد، بمسميات مختلفة ومصير وهدف واحد.
أعلن المستعمر الرحيل، بعد ضربات موجعة من الفدائيين، ولكنه رحيل المنتقم، قيل حينها رسم مخطط استبدال كل سلطان بشيطان، يوسوس بالتخلص من الآخر، وهي سياسة فرق تسد، للحفاظ على مصالح المستعمر وأعوانه في المنطقة، تلك المصالح التي تتطلب ضرب عدن، ضرب مقوماتها الاقتصادية، وطرد كل العقول والكفاءات والخبرات، وتدمير كل المرتكزات الاقتصادية والسياسية والثقافية، وتسليم عدن لطرف دون غيره، حيث وجدت مصالح المستعمر في إثارة فتنة، وتصعيد التوتر والاقتتال الأهلي، ووجه الجيش لدعم الجبهة القومية، على حساب جبهة التحرير وقوى وطنية أخرى كان لها بصمات في العمليات الفدائية، مما رسخ ثقافة رفض الآخر، والصراع على السلطة، وفي منحى يتطور الصراع، وصل لحد الانحياز الإيديولوجي، الذي عزز سلطة الفكر الواحد، وتصفية كل معارضي ذلك الفكر، وأوجد مبررات التصفية الدموية التي تعرضت لها تجربة الاستقلال في الجنوب اليمني، من أحداث 68م مروراً بأحداث 78م حتى الضربة القاسمة في 13 يناير 86م، التي أنهك فيها الجنوب، ودخل في وحدة خاسرة مع قوى تقليدية، استهدفت ما تبقى من قوى حية فيه وفي اليمن شماله وجنوبه، ولازال إلى اليوم الجنوب يعيش مآلات تلك الحقبة من الصراعات، عاجز عن تجاوزها والخروج من آثارها لينتقل للتعافي، ولازال يبحث بين ركام مخلفات الماضي ما يقتات منه لتغذية الكراهية والعنصرية والثارات، التي جعلت من الجنوب ساحة مُثلى للتوظيف ضد المشروع الوطني اليمني الكبير، والخروج من عباءة الوصاية الإقليمية والدولية، لينهض.
كثير من شباب اليوم، يعيشون وهم الزمن الجميل، جميل عندما أفرغ الجنوب من كل كوادره، وأعلن قحطان الشعبي قرار تصفية الكوادر والكفاءات، في تسريح 169 كادراً وكفاءة من أبناء عدن دون حقوق، بل تمت تصفية الكثير منهم، واستطاعت بريطانيا أن تجلي تلك الكوادر لتبني كياناتها المتناثرة في منطقة الخليج، كبدائل لمشروعها الاستعماري (الجنوب العربي) الذي أفشلته عدن، وهي في قمة وهجها القومي والوطني والعربي والإسلامي، والتي رفضت أي مشاريع تستهدف الأمة، وها نحن نعيش مرحلة معاناة تلك الكيانات التي تحولت خناجر تنغرس في جسد الأمة وتنحرها بدم بارد خدمة لأعدائها الصهاينة.
لا ننكر أن العدد القليل الذي تبقى وناصر أيديولوجية النظام، عاش في نعيم تلك الأيديولوجيا، حيث الجميع متساوون في الفقر والعوز، وكان الفرق بين الطبقات غير مؤثر على بعضها البعض، لكن الظلم لا يسقط بالتقادم، والمنتصر الذي صاغ التاريخ بأهوائه ومزاجه، وهمش تاريخ الآخر، وألغى مواقفه الوطنية، كانت تجربة تحتاج اليوم لدراسة عميقة وتصويب، ونقد علمي لنستخلص منها العِبر والدروس، ونعيد صياغة التاريخ وفق حقائق دامغة، وإنصاف الآخر، جبهة التحرير والمؤتمر العمالي وشركائهم في النضال.
ترك تلك التجربة دون نقد، وترك أصحابها يتغنون بها، ويصورونها على أنها مثالية، هو استمرار لذات العبث، الذي يدفع بأبناء قادتها بالأمس لتصفية حساباتهم في حاضرنا، وينتقمون لذويهم في إعاقة مستقبلنا، وواقعنا اليوم هو نتاج لذلك.
لكل تجربة إنسانية ووطنية عيوب ومنجزات، سلبيات وإيجابيات، لا يمكن الحديث عنها دون تقييم حقيقي وصادق وعلمي منصف، دون ذلك سنبقى نحوم على وهم الزمن الجميل، ونحن ننظر لنصف الكأس، ونتجاهل النصف الآخر المرّ منه.
في كل الأحوال نهنئ الشعب اليمني بعيد الاستقلال، جبهة قومية وجبهة تحرير، الجمعية العدنية، والجمعية الإسلامية، حركة الأحرار الدستوريين، والقوى الشعبية، والمؤتمر العمالي، وحزب الشعب، وفصائل البعث، وكانت عدن حينها تحتضنهم بحب وتسامح، وكانت لهم ساحة للمنافسة الفكرية والثقافية، ومنها تخلقت نواة الحركة الوطنية اليمنية، وكانت حضناً دافئاً للمثقفين والمفكرين والسياسيين بكل توجهاتهم ومشاربهم، حينما كانت عدن، ثاني ميناء في العالم، وكانت سباقة، ترفد العالم بكل جديد من البضائع والمنتجات والصناعات، وبعد كل ما ذكرناه كيف صارت اليوم، يبحث فيها الناس عن قرص روتي، ودبة غاز، أو بترول، والباقي يعرفه صغيركم قبل كبيركم، والله المستعان.