المقالات

أين أصبح محمد بن نايف؟

أين أصبح محمد بن نايف؟

الجديد برس : رأي

إسحاق المساوى

أخيراً، وصلت الرحلة الطويلة للأمير محمد بن نايف إلى وجهة خاطئة، لم تمكّنه حتى اليوم من إعادة ضبط مساره على الوجهة الصحيحة، بفعل الأوتاد التي أحكمت تثبيت الرجل بجدران يحرس الصمت نزيلها بعناية، ويأكل الصدأ ثقله في ميزان القوى الخليجية، والغربية، وحتى العائلية.

وبينما تبدو هذه الصورة الاختزالية لمآلات ابن نايف، «تحاملاً عليه» في توصيف المراهنين على لحظة تاريخية فارقة تُجبر من انتزع منه أمجاداً، وملكاً، على إعادتهما؛ ربما يجدر بنا التحقّق بعد ثلاثة أعوام من عزله، عن الثقل الفعلي للرجل في دورة الصراع القائم ورهاناته المستقبلية.
يظهر محمد بن نايف بوصفه مادة إعلامية صالحة لتصفية الحسابات البينية لدى فرقاء الخليج. وقد يجدر بنا أن نتساءل على خلفية الحسابات: هل كان القطريون يحملون قضية الرجل ضمن أهدافهم الاستراتيجية لتغيير إدارة الحكم في السعودية؟ لن نعثر على قطر في صيغة الإجابة عن التساؤل الكبير، وبالتالي لن نعثر على محمد بن نايف في رهانات خليجية وازنة، عدا أنّه كان مادة خبرية في غايات الموجوعين من المقاطعة الخليجية، لا أكثر. وها قد توارت المزايدة الإعلامية بقضيّته، بمزايدة المصالحة الخليجية.
تتطابق الوسائل وتختلف الغايات بالنسبة إلى مؤسّسات الحكم الأميركية، وبين صراع المصالح البينية والدولية، تغيب مصلحة ابن نايف الرئيسية، وتضيع أحلامٌ لطالما منحته شعوراً بزهو «جلالة الملك». لقد كانت ممكنات الفعل القطري وضع لجوء بن نايف ضمن شروط التفاوض على المصالحة الخليجية، إن كانت متضامنة فعلاً مع قضيته، أو حتى كمقابل استثمارها على مدى ثلاثة أعوام. لكنّ غيابه عن المصالحة، لا يعزّز حقيقة أنّ الرجل أصبح «لا شيء» في ميزان القوى الخليجية وحسب، بل قد يجعل من حضوره في التفاهمات السرية احتمالاً وارداً، ومن تحييده عن الإعلام، كمقدمة لطي صفحته، مطلباً عادلاً لدى الأمير الطائش.
في الحقيقة، مثّلت ساعات الفجر الأولى من حزيران / يونيو 2017، البداية لعزل ابن نايف عن ثقله الحقيقي. بعدها تحوّل إلى «شحّاد» دولي للعطف، والتضامن، في ظلّ توالي خسائره وصولاً إلى حالات بات لا يملك معها من عوامل القوة شيئاً سوى «سعد الجبري».
خطوة الجبري بمجملها؛ قضت تماماً على مهابة رجل كان ولياً للعهد، ووزيراً للداخلية، وحليف أميركا القوي؛ وجعلت الشكوك بسطوة ابن سلمان المطلقة عليه يقيناً في واقع اليوم. ثم إنّ الجبري استثمر المعلومات التي فرّ بها إلى كندا في صناعة البطولة لنفسه، ونسي أنه موفد لإنقاذ ابن نايف من القيود التي كبّلته وأودعته للنسيان.
لقد عكست تحركات الجبري الحالة الانهزامية لابن نايف، بلجوئه العلني للتهديد الانتحاري «عليّ وعلى أعدائي» ما يعني فقدانه التأثير في المنظومة الاستخباراتية عبر قنواتها المعروفة، ولا دلالة لهذا سوى أنّ الرجل فقد ورقته الرابحة والأخيرة.
على وجه خاص، فالمنظومة الاستخباراتية الأميركية التي خدم فيها ابن نايف لعقود، وصنّفته بأفضل من أبيه، وأفضل من يتولّى العرش؛ لم تكن ترى في الرجل غير بنك معلومات مخلص، ومع عزله تغيّرت ولاءات القصر، وولاءات المؤسّسة الأمنية بشكل خاص، فتغيّرت قناعة المنظومة الاستخباراتية، المدينة للمعلومة بصرف النظر عمن يقدمها، سواء ابن نايف أو أمير آخر. وبالتالي انتهت الحاجة إليه، إلا من دور هامشي، قد ينتهي بدفن الضحية مع الأدلة هذه المرة.
وبالعودة إلى موفده الجبري، فهو لا يقدح من رأسه إلّا بما يتناسب مع الدور الجديد الذي فصّلته الاستخبارات الأميركية لابن نايف: «مجرد فزّاعة» ليبقى ابن سلمان طيّعاً ومستعدّاً للالتواء بساق أميركا في كلّ الظروف.
حتى «فزاعة ابن نايف» قد يبدو عمرها الافتراضي قصيراً، مع صناعة منافسة أخرى، كفزّاعة الأمير أحمد بن عبد العزيز التي ظهرت بدور المعارض القوي لابن سلمان، فهل علينا أن نتساءل هنا عن ماذا بقي بيد الفزاعة الأولى؟ أم كم تبقّى من عمرها الافتراضي؟
بالطبع، لو كان الرجل يشكل ثقلاً في ميزان الاستخبارات السعودية أو الأميركية، لما أمكن عزله من الأساس، ولما انتهى حاله إلى سلّة معلومات يعرضها موفده الجبري في سوق الغرب، مقابل الحصول على حياة منزوعة القلق. وبالطبع، إنه أمام خصم يستكثر عليه حتى البساطة، وبالطبع، إنه فقد الثقة بنفسه؛ فتدنّت أحلامه إلى ما يشبه أحلام البسطاء، في دولة توفّر الأمن والرعاية لأبنائها، ونسي أنّه كان دولة.
في قناعات العائلة، ربما لا وجود لفرضية ابن نايف كمعادل سياسي للأمير الطائش محمد بن سلمان. وإن وجد فالأخير ثري بذرائع القصر لتصفية الخصوم، وربما لن ينشغل بكيفية الإخراج المنطقي لجناية تطاول ابن نايف، أكثر من اهتمامه بنجاحها، وثقته المطلقة بتغييبها لدى الإدارة الأميركية ضمن مسالخ البلدين المشتركة. قد يكون ابن نايف في ميزان الأسرة وتقييمها جباناً، فلا يؤهّله ذلك ليكون بديلاً. لكنّه أيضاً معزولٌ عن التأثير حتى في دائرته الضيّقة التي خرجت من صلب أبيه، والتي لن تغامر بمناصب تقلّدتها من ابن سلمان كنوع الاستقطاب؛ فالبر للمصالح مقدم على بر الوالدين في أدبيات العائلة.
أيضاً الرهان على قدرة الرجل على خلق تحالفات مع أمراء مُقالين، مثلاً، في المؤسّسة العسكرية كمتعب بن عبدالله وزير الحرس الوطني السابق، قد يكون معقّداً جداً، بتعقيد صراعات الأبوين الراحلين عبدالله ونايف، والحال نفسه بالنسبة إلى أبناء وزير الدفاع الراحل سلطان بن عبدالعزيز، فالبعض مهادن، والبعض الآخر مستفيد من التحولات السلمانية، وتربطهم بابن نايف صراعات الأبوين المتنافسين قديماً على لقب «جلالة الملك».
لا يبدو أنّ المخرج الأميركي أبقى مجالاً لتراجع العداوة الدائمة لمصلحة صداقة مؤقتة، ولا يوجد مسلك آمن للعائلة والسعودية بأكملها تحت ظلّ ذات المخرج ومصالحه. كاستثناء، فُطر أفراد العائلة السعودية – أكانوا مناصرين أو معارضين لابن سلمان – على اجترار مشاعر الكره للراحل نايف وابنه محمد، المعروفين بالحقد على الجميع لأسباب أو لدونها، ما قد يجعل شركاء ابن نايف في الضرر، يفضّلون مساوئ ابن سلمان، على حرية يفتح مزاليج أبوابها الصدئة، رجل لم يحرّر نفسه من أزماته الشخصية، فضلاً عن أزماته مع الآخرين.
اعتقاد ابن نايف بدهاء عقله، يثير الضحك كثيراً، لماذا؟ باختصار شديد: لأنّه في السجن. وليس من الدهاء، ولا حتى من الغباء، انتظار تحوّلات مقبلة ترجّح دفة البدائل السياسية لمصلحة ابن نايف، لأنّ المنطق السياسي والعسكري يفرض نموذج ابن سلمان، ولا تُسعف الغرب صناعةُ بديل عنه، كما لا يضطرّها مطلقاً، وكأنّ هذا العالم ليس لديه من هدف غير إعادة الرجل إلى مركزه المفقود.
من الدهاء عدم الظن في يقين المعركة الطويلة، وعدم البحث عن حلول من أطراف المشكلة والمنظومة الغربية نفسها، ذلك أنّ تصحيح المسار على الوجهة الصحيحة، يستحيل مع البقاء على متن مركب تتحكّم بمقوَده الاستخبارات الأميركية، ويخضع الخليج بأكمله لمساراته الإجبارية.
* صحافي يمني مهتمّ بشؤون الجزيرة العربية

نقلا عن الأخبار اللبنانية