المقالات

العنصرية بين الجواهري وساطع الحصري

الجديد برس : رأي

محمد ناجي أحمد 

يعرِّف المفكر القومي ساطع الحصري نفسه بأنه من مواليد صنعاء عام 1879م، وأنه من أسرة عربية أصلها من الحجاز، وانتقلت إلى حلب في القرن التاسع الهجري, وقد كان لعمله في السلك الإداري العثماني في البلقان ما ساعده على فهم المسألة القومية، قبل الحرب العالمية الأولى.
بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، وتفكك الامبراطورية العثمانية، انتقل ساطع الحصري إلى سوريا بحسب طلب من الملك فيصل، وتم تعيينه وزيراً للمعارف، إلاّ أن الشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري في كتابه (ذكرياتي) [الجزء الأول -دار الرافدين، 1988م] ينفي أن يكون ساطع الحصري قد جاء بناء على طلب من الملك فيصل بن الحسين، وإنما هو الذي سعى والتحق بفيصل، ثم انتقل معه بعد احتلال فرنسا لسوريا، ليُعين مديراً للمعارف في العراق..
تم تجريد الحصري من جنسيته العراقية بسبب موقفه المؤيد لثورة رشيد عالي الكيلاني ضد بريطانيا. ويرى الجواهري في مذكراته أن ساطع الحصري وقف مع حركة الكيلاني لأنها تعبر عن أفكاره ومبادئه الشوفينية والنازية، والمتأثرة بنازية الألمان، ورؤيته لمفهوم الأمة واللغة. والجواهري في هذا الموقف العدائي من الحصري يصدر من ثأر قديم حدث بينه وبين الحصري حين كان الأخير مديراً للمعارف في العراق في عشرينيات القرن العشرين، فقد تم تعيين الجواهري ـ بحسب ما يرويه في مذكراته ـ مدرساً في المدارس الثانوية في العراق، إلاّ أن ساطع رفض ذلك، فتم تعيينه مدرساً في المدارس الابتدائية، كان ذلك عام 1927م، وحجة ساطع أن الجواهري لا يمتلك شهادة مدرسية تسمح له بالتدريس في المدارس الثانوية، وقناعة الجواهري هو أنه تم إبعاده وتنزيله إلى المدارس الابتدائية لأسباب عنصرية تتعلق بكراهية ونازية ساطع الحصري ضد الانتماء الشيعي للجواهري، وأن ساطع كان ينطلق من حقد عثماني عنصري ضد كل ما هو فارسي. ولذلك فقد وجدها فرصة كي يفصل الجواهري من التدريس في مدارس العراق، بحجة أن الجواهري كتب قصيدة حين زار مصايف فارس في فترة سابقة لتعيينه في التدريس، وقد نشرها في جريدة أسبوعية، يصدرها (عبد الرزاق الحسني)، يقول في مطلعها:
لي في العراق عصابة لولاهم
ما كان محبوباً إليَّ عراقُ
وقد اعتبر هذا البيت دليلاً على شعوبية وعدم عراقية الجواهري. والبيت الشعري ورد ضمن قصيدة مشحونة بالحنين إلى العراق، ومطلعها:
هب النسيم فهبت الأشواقُ
وهفا إليكم قلبه الخفَّاقُ
فاعتبرت القصيدة تنصلاً من الانتماء للعراق بحسب ما يرويه الجواهري في مذكراته، في الجزء الأول منها، ط1، 1988، وبحسب حوار أجراه مع الناقد والكاتب الدكتور غالي شكري، في براغ، سبعينيات القرن العشرين.
وإزاء هذا الموقف الذي انتهى بحل وسط، وهو أن يقدم استقالته بدلاً من فصله، وإن كان ساطع قد رفض الاستقالة، وأصدر قرار فصل رفضه وزير المعارف (عبد المهدي المنتفكي)، وأصدر كتاب استقالة للجواهري.. إزاء هذا الموقف يشكك الجواهري بالانتماء العربي لساطع الحصري، ويصفه بأنه ليس عربياً، وإنما اختلق لنفسه نسباً غير نسبه، وأنه استمر مؤمناً بالعثمانية، ولم تتحرك له عاطفة تجاه إعدام شهداء الطليعة العربية بدمشق، حين علَّقهم جمال باشا بالمشانق في دمشق، أثناء الثورة العربية ضد الأتراك، ومن ضمن الشهداء صديقه عبد الكريم الخليل. بل يرى الجواهري أن ساطع كان يبتعد عن نشاط الطليعة الأولى للعروبيين في المنتدى الأدبي بباريس، الذي أسسه صديقه خليل عبد الكريم، رغم تعيينهم له مستشاراً. وأن قوميته العربية لم تبدأ إلاّ حين سقطت العثمانية، ولفظته القومية التركية بقيادة كمال أتاتورك، وهي القومية التي يراها ساطع أنها خانت العثمانية.
يصف الجواهري خصمه ساطع الحصري بأنه كان يدير المعارف والثقافة بالعراق بتوجيه من البريطانيين، يتلقى تعليماته منهم. يقول الجواهري (لقد قلت هذا كله، ولا أريد أن أخدع القارئ، وليس من السهولة أن ينخدع القارئ نفسه، إن (ساطعاً) لم يكن مسؤولاً عن وزارة المعارف أمام الوزير العربي فحسب، بل أمام المستشار البريطاني الأجنبي والأعلى منه ومن الوزير أيضاً) (ص151)! وأنه كان سنياً مذهبياً، نازياً في مفهومه للعروبة والقومية العربية. وهو توصيف يتناقض مع تعاريف ومفاهيم الحصري للعروبة، وإن تأثر كغيره من القوميين بالألمان والفرنسيين بمفهوم الأمة والقومية.
في كتابه الذي نشر لأول مرة عام 1951م، ثم أعاد نشره مركز دراسات الوحدة العربية عام 1985م، يصف ساطع الحصري العروبة بأنها ليست أصلاً ودماً ونسباً، وإنما هي معنى حضاري (فإني أعلم العلم اليقين أن الأبحاث العلمية برهنت برهنة قاطعة على أنه لا يوجد على وجه البسيطة شعب منحدر من أصل واحد.. إنني أشبه الأمم من هذه الناحية بالأنهر العظيمة، فمن المعلوم أن كل نهر، تجري فيه مياه أتت من منابع ومصادر وروافد مختلفة، والأنهر الكبيرة تكون كثيرة المنابع، وعديدة الروافد بوجه عام) (ص48،49). فالمؤمنون بالقومية العربية (يقولون إننا عرب) بهذا المعنى، لا بمعنى (أننا منحدرون من الجزيرة العربية).
يقدم الجواهري خصمه ساطع على أنه كان لديه شبه مترجم في العراق حين كان مديراً للمعارف، ويستشهد بالباحث الأمريكي (وليم كليفلاند) وكتابه (ساطع الحصري من الفكرة العثمانية إلى العروبة)، حين قال بأن اللغة العربية هي اللغة الثالثة لساطع الحصري، تعلمها وهو في الأربعين من عمره (في المرحلة العربية من نشاطه، أي وهو على أبواب الأربعين، وبعد انهيار الخلافة العثمانية) (ص167). لكن هذا القول إن صح لا ينفي إجادة الحصري لهذه اللغة التي وصفها الباحث الأمريكي باللغة الثالثة، لكنه لم يصفها بالضعف والركة!
يتتبع محمد مهدي الجواهري نسب الحصري في (حلب)، فلا يجد بحسب ما يرويه في مذكراته أثراً يدل على بيت بلقب (الحصري)، ثم حين يزور اليمن في بداية الثمانينيات لا ينسى أن يبحث عن نسب خصمه، فيسأل الأدباء والمثقفين، ويعود إلى ما سماها المكتبة الوطنية بصنعاء، فلا يجد ما يمت بصلة نسب يربط ساطع الحصري بصنعاء، أو باليمن.
بالرغم من أن (محمد الهاشمي) في مذكراته اعتبر الخصومة بين وزير المعارف (عبد المهدي المنتفكي) ومدير المعارف (ساطع الحصري) قد أخذت بعداً طائفياً بسبب موظف صغير وقتها هو محمد مهدي الجواهري، وأن التراتب الوظيفي كان يقضي بتنفيذ القرار دون تحويله إلى قضية طائفية. ومع ذلك فإن الجواهري يرى في ما طرحه (محمد الهاشمي) طرح من يخنع للوظيفة ويلتزم بتراتبيتها. ولا يكتفي بذلك، بل يورد كيف أن الملك الوصي على العرش عبد الإله كان يهين الهاشمي في الاجتماعات، ولا يحرك الهاشمي ساكناً، بل يطلب من قيادات حزبه (الاستقلال) عدم تحديد موقف سياسي! كل ذلك لأن مذكرات الهاشمي كانت في صف (الحصري)، ولأن صحيفة (الاستقلال) وقتها أثناء الأزمة بين الوزير ومدير المعارف، وقفت في صف (ساطع الحصري)، فكان ذلك دافعاً للجواهري لأن يصف الصحيفة وصاحبها (عبد الغفور البدري) بأنه انتصار وتعصب (لما يمثله موقف (ساطع) في هذه النزعة المشؤومة).
يتوقف الجواهري عند الاستمارة التي سلمت له كي يملأ بياناتها، فيقول بأنها عنصرية تتعلق بـ(هل أنت عراقي، هل أنت مسلم، هل أنت شيعي، هل أنت سني) إلخ، وأن إجاباته عليها كانت تهكماً، مثل أن يجيب على: هل أنت عراقي، فيجيب (هندي)!