المقالات

هوامش حول النهضة العربية المغدورة

الجديد برس : رأي

محمد عبد الشفيع عيسى

فكرت مليّاً في ما آل إليه حالنا في الوطن العربي، وتقافزت أسئلة لاذعة كشواظ من نار: لماذا تبدو مسيرتنا الحضارية ــ نحن العرب ــ في العصر الحديث وفي تاريخنا المعاصر حتى الآن، تبدو في غالب الأحيان متقطعة، ومعطلة أو شبه معطلة أحياناً كما هو الحين القائم؟
ولما كان للنهوض الحضاري، بشقيه المادي ــ العمراني من جانب، والثقافي من جانب آخر، شروطه التي لا يقوم ولا يتم إلا بها، فقد كان من المنطقي أن نتساءل مرة أخرى: ما هي شروط النهوض وهل توفرت لدى العرب أم لا؟ وكيف السبيل إلى تلبية هذه الشروط؟

وكان من المنطقي أن نتساءل ــ من أرضية جمهورية مصر العربية بالذات ــ هل غابت الشروط، وهل هيمن هذا الغياب على بلادنا في ظل «ثورة 25 يناير» 2011، وما بعدها؟ وكيف ذلك؟ وربما انطلاقاً من نقطة الابتداء المتوهجة نارها بالذات، جرى العلم بما نسطره في هذا المقال، وشكّل دافعاً خلفياً للدرس والمقارنة مع العودة إلى ما كان في زمن قريب: لماذا تعطلت حركة توليد الأعلام من المفكرين والمتفلسفة والعلماء والفنانين، والتي بدت غير منتظمة تماماً خلال فترة 1922 ــ 1952 ثم انطلقت هادرة في ظل «ثورة 23 يوليو» 1952، واستمرت بقوة «القصور الذاتي» حتى أواخر السبعينات وربما مطلع الثمانينيات، في كل مجال ثقافي وعمراني، من فنون الموسيقى والغناء والتمثيل والرقص إلى الأدب الروائي والشعرى والنقد الأدبي والأعمال الفكرية والفلسفية، وكذلك في مجالات العلم الطبيعي والرياضي وفي الهندسة المدنية والإنشاءات؟
ولماذا ظهرت التماعات نضالية ونهضوية ــ متقطعة نعم ــ خلال الثمانينيات والتسعينيات حتى 2011، ثم انطفأت أو انزوت نسبياً، مثل حركة مقاومة التطبيع مع إسرائيل، و«الدفاع عن الثقافة الوطنية»، ثم المقاومة الإيجابية والسلبية ضد نظام الفساد المباركي (كما في حركة «كفاية»)؟ ولماذا تضاءل دور المجتمع الأهلي أوالمدني؟ ألأنه انحصر في إطار «الإسلام السياسي» ولم يمتد إلى عموم الجذور الاجتماعية (Grass roots)؟
ووجدتني أجيب مع نفسي وعلى نفسي رداً على السؤال، وخطر لي أن هناك في البدء شرطاً مركزياً أو سياسياً نووياً للنهوض؛ وذلك هو النشاط القوى للمجتمع الأهلي بمعناه التاريخي والتراثي لدينا، بما هو أوسع وأعمق من مفهوم «المجتمع المدني» في الفكر الغربي. والمقصود هنا مجتمع أهلي فاعل عابر للعصبيات الفرعية جميعاً (طائفية كانت أو دينية أو مذهبية أو عرقية وغيرها) جامع للشتات من حول الرابطة الحضارية التي تمثلها حركة القومية العربية بأفقها الإنساني. هذه النواة المجتمعية النشطة، عمادها المركزي فئات اجتماعية تتوسط السلم الاقتصادي والاجتماعي، وبحيث تتوافق معها نسبياً قاعدة الهرم المجتمعي، الغالبية الاجتماعية. هذا كله من جانب أول. ومن جانب ثانٍ، فإن تلك النواة النشطة تكون مستقلة نسبياً عن السلطة السياسية، ولكن من دون أن تستنزف في معارك مع قمة الهرم السياسي. وحبذا لو توفرت ظروف سمحت للنواة النشطة بملء حيز معقول من «المجال العام» الداخلي من دون انشغال بمعارك جانبية معطلة على المسرح السياسي المكشوف.
ونستكمل السباحة في حيز التفكير المجرد على طريقة بناء «أنماط مثالية» (Ideal types) علّها تساعدنا في رسم نوع من «خارطة طريق» ــ بلغة هذه الأيام ــ لابتداء أو استئناف مسيرة النهوض.

 

أستاذ في معهد التخطيط القومي

 الأخبار