المقالات

المشهد الفلسطيني .. قسوة التاريخ ومنطق البطش

الجديد برس- بقلم-يحيى العوفي|
لا يبدو أن القيادة الإسرائيلية الراهنة في عجلة من أمرها حول حرب الإبادة والتطهير العرقي ضد الفلسطينيين فهي مستمرة بكل صلف وعنجهية وماضية في السقوط بها إلى أحقر مستوياتها انحدارا وفظاعة في التاريخ المعاصر منذ مذابح التطهير العرقي في حرب البوسنة والهرسك ما بين 1992 – 1995 وكذلك حرب الإبادة في رواندا بين قبائل « الهوتو » و « التوتسي » عام 1994 وما فعلته القوات الأمريكية من فظائع في حق الشعب العراقي إبان غزو العراق عام 2003.

ويرتقي يوميا مئات الشهداء الفلسطينيين معظمهم من الأطفال والنساء ويصبح استشهادهم مجرد خبر ثانوي في وسائل الإعلام العالمية، بل إن بعض وسائل الإعلام العربية والخليجية، للأسف، تتناوله بخجل في أواخر الأخبار وقد يأتي أو لا يأتي بعد خبر عن « سخونة الآيفون الجديد » و «انفصال إحدى المشهورات» أو آخر صيحات الموضة في مجموعة المصمم «إيلي صعب الصيفية » ! .

في واقع الأمر، فإن ذلك أمر غير مستغرب، في ظل منطق البطش والقوة الإسرائيلية الذي توفر له واشنطن الغطاء السياسي والعسكري واللوجستي فيما تتولى حكومة الكيان استكمال الفظائع على الأرض وتهيئة المسرح الإقليمي والدولي لتذويب القضية تحت ضربات القصف والاغتيالات والتجويع، وكل تلك السلسلة من الفظائع الدموية التي أصبحت ثقافة وهوية الكيان الإسرائيلي في تعاملها مع الفلسطيني والعربي والإيراني وتحويل الفلسطينيين إلى «دياسبورا» العصر، مشرذمين في المنافي ومخيمات اللاجئين وتفاصيل مشوهة في جداريات المشروع الصهيوني وبعض حلفائهم «العرب» والانتقال إلى الأجزاء اللاحقة لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى من خلال التوسع وقضم أجزاء من سوريا ولبنان، فيما يرى بعض المراقبين أن الهدف هو دول مركزية أخرى في العالم العربي حيث لا يراد لهذه الأمة أن تقوم لها قائمة.

وبحسب صحيفة الجارديان بتاريخ 7 من يوليو 2025، فقد دخل على ذات الدائرة المشؤومة مركز الأبحاث التابع لتوني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ( Tony Blair Institute for Global Change (TBI) ) للمشاركة في مشروع لوضع وتطوير خطط لما بعد الحرب في غزة، تتضمن إنشاء «ريفييرا ترامب» ومنطقة صناعية تحمل اسم إيلون ماسك بالشراكة مع رجال أعمال إسرائيليين، في سياق رؤية دونالد ترامب التي كانت تهدف إلى السيطرة على الأراضي الفلسطينية وتحويلها إلى منتجع سياحي وفق الصحيفة.

في مقابل ذلك، هنالك انقسام فلسطيني كارثي بلغ من السقوط والتردي أن يطالب رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية حركة حماس بإلقاء السلاح تمهيدا لتصفية من تبقى منهم حيا لاحقا من جانب آلة القتل الإسرائيلية، وهو أمر مؤسف حيث لم يخرج الفلسطينيون على ما يبدو من ذهنية «الفصيل» والتحول إلى ذهنية المقاومة الشاملة الموحدة إيديولوجيا وفكريا وعسكريا وتبعثرت راياتهم وذهبت ريحهم بين توجهات ومآرب الممولين والرعاة وشذاذ الآفاق والحسابات الإقليمية والدولية بخلاف العديد من حركات المقاومة والتحرر الأجنبية التاريخية.

يبدو الوضع في غاية الكارثية الآن في هذه اللحظة العربية المجنونة حيث تتآمر أطراف عربية لتدمير عرب مثلهم ومسلمين مثلهم ويكملون مسيرة الدم والخراب الإسرائيلية في الجغرافيا العربية في مشهد تجاوز معظم سوريالية الحالة العربية، التي لربما لم تنكشف بهذا المستوى الدموي والعبثي منذ استقلالها عن هيمنة الدول الاستعمارية من بعد الحرب العالمية الثانية.

ومن المفارقات اللافتة في هذا السياق رغم أنه ليس بجديد تاريخيا، أن نجد ردات فعل و«انتفاضات» أخلاقية على المستوى العالمي لاسيما في أوروبا التي بدأت تشهد حراكا سياسيا ضد البربرية الإسرائيلية تحت وطأة الضغط الشعبي والرأي العام الأوروبي (بدأت تنتشر شعارات مثل الموت لجيش الدفاع الإسرائيلي) وصدور تصريحات ومواقف ضد الحكومة الإسرائيلية لم تعهد سابقا في أوروبا الغربية وحتى في عمق الداخل الأمريكي، ويبدو أن الوعي الأوربي والعالمي بدأ يخرج من حالة التضليل الممنهج واختطاف الرأي العام العالمي فيما يخص فلسطين والسردية الفلسطينية.

ومع ذلك فإن التاريخ ورغم كل هذه الصورة القاتمة والمعطيات المحبطة وحالة الخذلان والانكسار التي تسود العالم العربي، إلا أن التاريخ يعلمنا دروسه بوسائل شتى، فرغم الاحتلال العسكري للضفة وغزة، وفرض واقع الفصل العنصري (الأبارتهايد) من خلال الجدران العازلة والمستوطنات والقوانين التمييزية وسياسة العقاب الجماعي، بما في ذلك الحصار الذي حوّل القطاع إلى أكبر سجن مفتوح في العالم وارتكاب المجازر الجماعية والتهجير القسري الممنهج، والتدمير الشامل للبنية التحتية، وخلق كارثة إنسانية غير مسبوقة ورغم القوة العسكرية الوحشية والتأييد الأمريكي / الغربي الرسمي، فإن إسرائيل تواجه اليوم مآزق وجودية متعددة بما في ذلك تحولها إلى دولة منبوذة عالميا وتزايد عزلتها الدولية إذ بدأت قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي، ومنظمات حقوقية بما فيها محكمة جرائم الحرب في وصف سلوكها بأنه إبادة جماعية وجرائم حرب.

وفي السياق ذاته، يلاحظ وجود حالة تآكل داخلي سياسي ومجتمعي وهناك انقسامات داخلية عميقة، وتطرف حكومي غير مسبوق، وتراجع في ثقة مواطنيها بمؤسساتها وقيادتها. في مقابل ذلك، يلاحظ صعود جيل فلسطيني جديد لا يعرف الخوف وليس لديه ما يخسره ولا يقبل بمساومات الاستسلام، بل يطالب بالكرامة والعدالة وحق العودة.

وبالتالي فإن إسرائيل، بصفتها قوة احتلال استيطاني تعتمد على العنف الممنهج والوحشية والإقصاء القومي والدعم الأمريكي، ليست محصنة من المصير الذي واجه أنظمة أخرى ولعل الشرق الأوسط (بربيعه وثوراته وعواصفه) يحفل بمثل هذه العبر والدروس، فالاستبداد والقمع والتطهير العرقي والفصل العنصري لا يمكن أن يكون مشروعًا مستدامًا لأمة ما، ولا يمكن لأمن دولة واستقرارها ومستقبلها يُبنى على أنقاض شعب بأكمله، أن يُكتب له البقاء والديمومة ولعل الصواريخ الباليستية الإيرانية التي ضربت تل أبيب مجرد تذكير بسيط بتعقيد الشرق الأوسط وتقلباته الخطيرة وعبره المريرة.

* نقلاً عن جريدة عمان اليوم