المقالات

التعصب والاستبداد: المجاورة والترادف

الجديد برس : رأي 

محمد ناجي أحمد

بدأ عبد الرحمن الكواكبي في تأليف كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) عام 1318هـ 1900م، بانتقاله من الشام إلى مصر، وأنهاه في 1320هجرية 1902م، أي عام وفاته في بداية القرن العشرين، وذلك في عهد الخديوي عباس الثاني، وهو الخديوي الذي قدم له (أحمد عرابي) اعتذاره عن حركة 1882م أو ما يسميها القصر هوجة عرابي، ليعود من منفاه إلى أرض مصر في تزامن مع انتهاء المؤلف من كتابه.
وقد وصف الكواكبي خديوي مصر بـ(سمي عم النبي (العباس الثاني) الناشر لواء الأمن على أطناف ملكه).
يرى الكواكبي أصل الداء في الشرق (الاستبداد السياسي، ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية)، فليس التهاون في الدين ولا الجهل، إنما أصل الداء هو الاستبداد السياسي. ويأتي التعصب الديني في هذا الكتاب كمظهر من مظاهر الاستبداد بين الناس في علاقتهم بعضهم ببعض.
الشرق والغرب في مفهوم الكواكبي ليس جغرافيا من حيث السمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإنما تحولات تاريخية وشروط موضوعية، متى وجدت وجد (الاستبداد) أو (الشورى الدستوري).
فالاستعباد لدى الكواكبي هو (إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى) لا (بمقتضى الحكم).
وأشد مراتب الاستبداد هي تلك السلطة المطلقة التي تجمع بين سلطة الجيش وسلطة الدين. ويزداد الاستبداد كلما ازداد التفاوت في الأملاك والثروة وازداد الجهل (وازداد عدد نفوس الرعية)، والجنود والجهل وسائل للاستبداد. (إن مخترع الجندية إذا كان هو الشيطان، فقد انتقم من آدم في أولاده أعظم ما يمكنه أن ينتقم)، فالجندية تفسد أخلاق الأمة، (حيث تعلمها الشراسة والطاعة العمياء، وكل ذلك منصرف لتأييد الاستبداد المشؤوم: استبداد الحكومات القائدة لتلك القوة من جهة، واستبداد المرء على نفسه).
ويرى الكواكبي أن المجتمعات المستبدة يتولاهم مستبد، وأن المجتمعات الحرة يتولاهم حر.
فالاستبداد السياسي (متولد من الاستبداد الديني، والبعض يقول: إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان، أبوهما التغلب وأمهما الرياسة، أو هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة إلى التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان، أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب). وقد بنى الكواكبي حكمه هذا (على مقدمات ما تشاهد عليه المسلمين منذ قرون إلى الآن من استعانة مستبديهم بالدِّين)، وذلك لأن التعاليم الدينية تدعو البشر إلى خشية قوة عظيمة لا تدرك العقول كنهها، قوة تتهدد الإنسان بكل مصيبة في الحياة فقط، تهديداً ترتعد منه الفرائص فتخور القوى، وتذهل منه العقول فتستسلم للخبل والخمول)، ولا تكون النجاة إلاّ على يد المهيمنين على الأديان (وكم يرهبون الناس من غضب الله وينذرونهم بحلول مصائبه وعذابه عليهم)! ويبني السياسيون (استبدادهم على أساس من هذا القبيل، فهم يسترهبون الناس بالتعالي الشخصي والتشامخ الحسي، ويذللونهم بالقهر والقوة وسلب الأموال، حتى يجعلوهم خاضعين لهم عاملين لأجلهم، يتمتعون بهم كأنهم نوع من الأنعام التي يشربون ألبانها ويأكلون لحومها ويركبون ظهورها، وبها يتفاخرون).
لهذا يختلط على العوام الفرق بين الإله المعبود وبين المستبد المطاع بالقهر. والدين أقوى إصلاحاً أو إفساداً للسياسة، فالإنجليز والهولنديون والأمريكان صلحت سياستهم حين (قبلوا البروتستنتية، فأثر التحرير الديني في الإصلاح السياسي. وقد أجمع الكتاب والسياسيون والمدققون بالاستناد على التاريخ والاستقراء، على أن ما من أمة أو عائلة أو شخص تنطع في الدين، أي تشدد فيه، إلا واختل نظام دنياه وخسر أولاده وعقباه). لهذا فإن إصلاح الدين عند الكواكبي (هو أسهل وأقوى طريق للإصلاح السياسي)، مستشهداً بالإصلاح الديني عند اليونان، (حيث تحيلوا على ملوكهم المستبدين في حملهم على قبول الاشتراك في السياسة بإحيائهم عقيدة الاشتراك في الألوهية)، مما سهل (على أولئك الحكماء دفعهم الناس إلى مطالبة جبابرتهم بالنزول من مقام الانفراد، وبأن تكون إدارة الأرض كإدارة السماء، فانصاع ملوكهم إلى ذلك مكرهين).
والعلاقة بين العلم والاستبداد علاقة تضاد؛ (يسعى العلماء في تنوير العقول، ويجتهد المستبد في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام.
ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا).
والمقصود بالعلم ليس العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد، فتلك لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، والمستبد يستخدم من نبغ منهم وسيلة (في تأييد أمره ومجاراة هواه، مقابل أنه يضحك عليهم بشيء من التعظيم، ويسدُّ أفواههم بلقيمات من مائدة الاستبداد).
إن العلوم التي (ترتعد فرائص المستبد) منها، هي (علوم الحياة النظرية والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية).. لهذا عمل مشائخ وفقهاء السلطان في العالم العربي والإسلامي على محاربة الفلسفة والعلوم الاجتماعية، وتعطيل مناهجها ومقرراتها في الجامعات والمدارس، وتقليل فرص العمل في هذه العلوم، حتى أصبحت حرفة الفقر مقترنة بها.
يعمل المستبد على تنمية الجهل في العوام، فهم (قوة المستبد، بهم يصول ويطول، يأسرهم فيهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريماً، وإذا قتل منهم ولم يمثِّل يعتبرونه رحيماً، ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ، وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة).
فالاستبداد والعلم ضدان متقابلان؛ (فكل إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل)، فانتشار العلم مهدد للاستبداد السياسي والديني، (والحاصل أنه ما انتشر نور العلم في أمة قط إلاّ وتكسَّرت فيها قيود الأسر، وساء مصير المستبدين من رؤساء سياسة أو رؤساء دين).
الاستبداد لدى الكواكبي مُولِّد للشر والظلم والإساءة والغدر والمسكنة والضُّر والذُّل والفقر والبطالة والجهالة والخراب.. وشَرَفُه المال. (وهكذا، المستبدون لا تهمهم الأخلاق، إنما يهمهم المال).
ومن طبائع الاستبداد أن (الأغنياء أعداؤه فكراً وأوتاده عملاً، فهم ربائط المستبد، يذلهم فيئنون، ويستدرهم فيحنون، ولهذا يرسخ الذُّل في الأمم التي يكثر أغنياؤها. أما الفقراء فيخافهم خوف النعجة من الذئاب، ويتحبب إليهم ببعض الأعمال ظاهرها الرأفة، يقصد بذلك أن يغصب أيضاً قلوبهم التي لا يملكون غيرها. والفقراء كذلك يخافونه خوف دناءة ونذالة، وخوف البغاث من العقاب، فهم لا يجسرون على الافتكار عن الإنكار، كأنهم يتوهمون أن داخل رؤوسهم جواسيس عليهم. وقد يبلغ فساد الأخلاق في الفقراء أن يسرَّهم فعلاً رضاء المستبد عنهم بأي وجه كان رضاؤه).