المقالات

لحظة حقيقية

لحظة حقيقية

الجديد برس : رأي

د. بثينة شعبان – المستشارة السياسية والإعلامية للرئاسة السورية –
وأنا عائدة من مكتبي كالمعتاد أستذكر ما الذي عليّ أن أفعله بعد ظهر هذا اليوم، وما هي المواعيد التي لم أتمكّن من تلبيتها خلال ساعات الدوام العادية، وما إذا كانت عليّ أية زيارة أو تعزية مستحقة لأصدقاء. وتذكرت أنه ليس عليّ اليوم أي من هذه الواجبات، فهذا زمن «كورونا» حيث نبقى في المنازل مع أسرنا ولا نزور ولا نستقبل حتى أقرب المقربين.
وبعد أسبوع من هذا النظام، الذي فُرض علينا لدواعٍ صحيّة، وجدت أنه لدي وقت أفضل للقراءة والكتابة والتفكّر بمواضيع كنت أتمنى أن أخصص لها بعضاً من وقتي، وأن أصل إلى استنتاجات ما بصددها. وتساءلت: هل يمكن أن يكون زمن «كورونا»، رغم كل ما جلب لنا من الكوارث والفقد والخوف والمرض، هل يمكن أن يكون له فوائد ما في بعض جوانبه؟
لقد كانت الشكوى الأساسية قبل «كورونا» هي ضيق الوقت وعدم وجود الساعات الكافية في النهار لننجز كلّ ما يتوجب علينا إنجازه، واليوم أسأل: هل كانت تلك السرعة في أسلوب الحياة مجرد محاكاة لاشعورية للسرعة التقنية التي يستخدمها الإنسان من دون التوقّف والتفكّر في ما يحتاج وما لا يحتاج، وبما هو مفيد وما هو غير مفيد؟ هل انساقت البشرية وهي راكضة في مضمار التنافس على استحواذ الأشياء من دون أن تتأكد فعلاً ما هو الضروري من غير الضروري؟ وهل كانت كل الفعاليات والزيارات التي كنا نقوم بها ضرورية لنا وللآخرين؟ أم أننا فقدنا التركيز على أولوياتنا المهمة وواكبنا ما هو مقبول ومرغوب مجتمعياً؛ فتقلّصت المساحة الخاصة فعلاً بنا لتفسح المجال للمساحات التي نتوهّم أنها محبذة من قبل الغير؟ وهل يمكننا اليوم رغم كلّ المعاناة البشرية أن نعتبر زمن «كورونا» فسحة للمراجعة والتأمّل؟ فالكثيرون من الأهل يتعرفون إلى أولادهم للمرة الأولى لأنهم يجلسون معهم في المنزل ساعات طويلة لم تُتح لهم في الماضي أبداً؛ وكأن أفراد العائلة الواحدة يكتشف بعضهم بعضاً للمرة الأولى، والسؤال هو: ما هو الشيء الذي كان يشغل الجميع؟ ووراء ماذا كان الجميع يركضون ويتسابقون؟
إلا أن نتائج «كورونا» لا تقتصر على الناحية المجتمعية، بل يبدو أن زمن «كورونا» سيكون له ارتدادات سياسية واقتصادية وكونية لا يمكن لأحد أن يتوقع أبعادها اليوم؛ إذ مازال الوقت مبكراً لاستقراء النهايات التي ستنتهي إليها هذه الفترة على كلّ الصعد، ولكن يمكن لنا اليوم أن نقرأ المؤشرات، وأن نحاول التوصل إلى استنتاجات مبدئية قد تضيء لنا ما نتوقعه في المقبل من الأيام. لقد برهنت كلّ التخرّصات حول الصين وطبيعة الطعام وطبيعة الحياة والتاريخ، والتي تناولها البعض بجهل، والبعض الآخر بحقد ممنهج، برهنت جميعها على أنها ضرب من السخافة، وأن من تشدّق بها لا يملك البصر ولا البصيرة، وبرهنت الأيام التي تلت ابتلاء الصين أن الابتلاء هو عالمي وأن أحداً لن ينجو من هذا البلاء، ولذلك، بدأت دول تدرك وللمرة الأولى أن استكبارها لن يجدي نفعاً، وأنه ورغم كلّ ما تُباهي به من قوة فهي في النتيجة جزء من أسرة إنسانية يصيبها ما يصيب هذه الأسرة من مرض أو ضعف أو وهن.
وبهذا الصدد فإن «كورونا» كشف وبشكل لا ريب فيه أن الفوقية الغربية لا محلّ لها بعد اليوم بين الدول، وأن الوقت قد حان ليتخلّى مستعمرو الأمس عن عنجهيتهم واستهانتهم بالشعوب الأخرى، خصوصاً وأن إعلامهم قد برهن أنه يضخّم من إمكاناتهم وقدراتهم كي تبقى مسحة التفوق حاضرة في أدائهم وتصرفاتهم مع الآخرين. فمن كان يصدّق قبل شهرين من اليوم أن الصين وروسيا سوف تتسابقان لإنقاذ إيطاليا من هذا الوباء، بينما لم تفعل ألمانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية شيئاً لمساعدة عضو في الاتحاد الأوروبي؟ ومن كان يصدّق قبل أشهر أن إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة وبريطانيا ستُظهر العجز الذي أظهرته في المعدات والتجهيزات الطبية، وأن الولايات المتحدة لا تمتلك 1٪ من أجهزة التنفس التي قد تحتاجها لمواجهة «كورونا»؟ هل قوة هذه البلدان مازالت قوة عسكرية فقط مجهزة لاحتلال أراضي الغير ونهب ثرواتهم من دون أن يكون التركيز الأول والأساسي هو صحة ورفاه هذه الشعوب؟
ومن هنا انطلقت الأسئلة حول طبيعة الحكم في هذه البلدان، وما إذا كانت أولوياتها تركّز على صحة مواطنيها أم على الحفاظ على ثروات الـ1٪ من الناس الذين يمتلكون معظم ثروات هذه البلدان وخيراتها؟  حتى إن أحدهم قد وجه أسئلة للرئيس ترامب فيما إذا كان مهتماً بإنقاذ حياة البشر أم بإنقاذ الاقتصاد والأرباح للـ1٪ التي هو جزء منها؟ ولا شك أيضاً في أن هذه الأسئلة وغيرها أكثر سوف تتدحرج لتتناول كنه الديمقراطية الليبرالية في الغرب، وما إذا كان هذا النظام هو الأنسب للبشرية، أم أن الحاجة أصبحت ملحّة اليوم لإيجاد نظم تعبّر فعلاً عن مصلحة الإنسان وتوقه وتوجهاته وخيره وصحته؛ إذ لم يعد كافياً أن يتحدث البعض عن نظام الانتخابات وحرية الإعلام، خصوصاً وأن الانتخابات في معظم هذه الدول تموّلها شركات أو أثرياء يتحكّمون بعدها بالقرار السياسي، وأن حرية الإعلام برهنت على أنها وهم كبير بعد أن اكتشفنا جميعاً زيف الإعلام المضلّل والأكاذيب الممنهجة التي روّجها الإعلام الغربي، ولاسيما منذ أحداث الـ11 من أيلول وغزو أفغانستان وغزو العراق والربيع العربي والحرب الإرهابية على سورية والحرب على اليمن إلى حدّ الآن؛ إذ إن أية مراجعة حقيقية لأي من هذه الأحداث تكشف عمق الزيف الذي مارسته وسائل الإعلام الغربية كي تبرّر لجماهيرها ما قرّرت حكوماتها القيام به من عدوان موصوف على هذه الدول لا مبرّر له على الإطلاق سوى استخدام القوى العسكرية لنهب ثروات هذه البلدان وتحويلها إلى دول فاشلة خدمة للمخطط الصهيوني في المنطقة .
لقد اعترفت مؤسسة «أنواع الديمقراطية» في بحثها للعام 2020، أن الديمقراطية الليبرالية تعاني من تراجع ملحوظ في العالم، ولكنّ هذه المؤسسة تعتبر أي نوع آخر من الديمقراطية يصبّ في خانة الاستبداد؛ حتى ديمقراطية الهند في رأيها تنحدر نحو الاستبداد بسبب مؤشرات الانتخابات والتعامل مع الإعلام. ولم ينتبه هؤلاء الباحثون إلى أن العالم يسير في مسارات مختلفة للديمقراطية، وأن الشعوب قد خلقت لذاتها مؤشرات تختلف من بلد إلى بلد ومن قارة إلى قارة، وأن المؤشر الحقيقي لعدالة وكفاءة النظام السياسي يجب أن يكون كرامة الإنسان وحريته وصحته وسعادته وتكافؤ الفرص بين أبناء البلد الواحد، وليس قدسية الانتخابات التي نرى بأم أعيننا كيف يتم استغلالها وتوجيهها من قبل الـ1٪ كي تكون النتائج كلها في خدمة تراكم وزيادة ثرواتهم على حساب الفقراء والخدمات الاجتماعية للدولة.
قد يكون «كورونا» يحمل لنا مؤشراً مهماً عن قرب انتهاء حقبة الديمقراطية الليبرالية التي أصرّ الغرب والمؤسسات الغربية على مدى العقود الماضية أنها الصيغة الوحيدة المعترف بها للديمقراطية، والمضحك في الأمر أن مؤسسة «أنواع الديمقراطية» تعتبر أن السودان قد اتجه في منحى ديمقراطي بعد الانقلاب العسكري، وأن الثورات الملونة كلها من أوكرانيا إلى هونغ كونغ تبشّر «بديمقراطية حقيقية مستقبلية»، ولذلك أودّ أن أختلف هنا مع الأستاذ طلال أبو غزالة الذي يدعو إلى إصلاح النظام الديمقراطي الغربي ومؤسساته الاقتصادية، وأنا أعتقد وبكلّ تواضع أن هذا النظام غير قابل للإصلاح، وأن الزمن قد تجاوزه، ولاسيما أنه برهن أن الـ1٪ هم مرتكزه الأساسي بدلاً من أن تكون مصلحة وسعادة وصحة وخير غالبية المحكومين من قبله.
لقد تمكن فيروس لا يُرى بالعين المجرّدة من أن يكشف عيوب نظم سياسية واقتصادية واجتماعية عجز باحثون ودارسون عن ملامسة نقاط ضعفها الجوهرية، ولذلك فإنني أعتقد أن زمن ما بعد «كورونا» سيكون مختلفاً جوهرياً عن زمن ما قبل «كورونا»، وأن العنصر الأهم في إحداث هذا الاختلاف هو الوعي البشري لحقيقة النظم التي تحكمهم، وأن مسألة هذه النظم برهنت على أنها مسألة موت أو حياة، ولم تهادن الشعوب طوال تاريخها حين تعلّق الأمر بحياتها وخيرها وخير ومستقبل أبنائها، ولذلك أتوقع أنه وبعد هذا الزلزال الصحي سوف نشهد زلازل سياسية واقتصادية ومجتمعية تضع أولادنا وأحفادنا في عالم مختلف عن ذاك الذي ظننّا أننا سنورثهم إياه. قد يكون زمن «كورونا» هو لحظة الحقيقة التي يتوجب علينا جميعاً أن نعيَها وأن نعيشها وأن نفهم مقتضاها، لأنها قد تكون لحظة البداية لمرحلة عالمية جديدة.
#بنت_الأرض