المقالات

بين الرياض وصنعاء.. حرب إيرادات وإرادات

بين الرياض وصنعاء.. حرب إيرادات وإرادات

الجديد برس : رأي

هشام صفا – كاتب ومحلل لبناني
لم يعرف الأميركيون ولن يعرفوا على الأرجح أن حسابات القوّة لديهم مبنيّة بالأصل على مُعطياتٍ منقوصةٍ، فمَن يحمل السيف ليتراقص به أمام ترامب وغيره أو ليهوي به على رأس شيخٍ أعزل أو فتاة بريئة، ليس كمثل مَن لا يُفارقه خنجره وإذا استلّه من غمده فلطعن جبّار في الأرض أو مُفسِد.

إن أوراق الحسابات التي فتحتها السعودية ابتداءً كانت مُتوقّعة لدى الطرف الآخر أي أنصار الله اليمنيين، والدّليل هو حجم الاستعدادات الإدارية والعسكريّة الدفاعية التي وفّرها اليمنيون لمواكبة تلك الحسابات.

وبغضّ النظر عن أن تلك الحسابات قد انطلقت من خلفيّاتٍ إقليميّةٍ تدّعيها السعودية التي ترفض أيّ تمرّد على إرادتها في الخليج ، أو انطلقت من خلفيّاتٍ دوليّةٍ مرتبطةٍ بالممرات البحريّة وبأمن النفط التي ترعاها الولايات المتّحدة الأميركيّة ، وبكلّ الأحوال فالنّزاع المُسلّح الذي نشب منذ أكثر من أربعة أعوام قد قام بين المملكة العربية السعودية وتحالف رمزيّ من بعض الدول من جهة ، وبين تشكيل محليّ يقوده حزب عقائديّ يمنيّ من جهةٍ أخرى.

انطلقت “عاصفة الحَزم” سنة 2015 على خلفيّة سيطرة أنصار الله على مفاصل الدولة في حملةٍ واسعةٍ استهدفت الانقساميين المدعومين من السعودية ، وقد بدا يومئذ أن حسابات القوّة والتفوّق العسكري والاستراتيجي تميل بشكلٍ رهيبٍ لصالح السعودية ، وأنّه لا مجال للتفكير وللتعويل على أيّ شيء من شأنه أن يشكّل مادة نقاش مُعتبرة حال تمثيل مُجابهة لتحديد التفاضل بين الطرفين.

فعلى مستوى الدولة والكيان كان يعاني اليمن انقساماً وطنياً حادّاً بين أبنائه على خلفيّة ولاءات لجهاتٍ خارجيّةٍ، يقابلها نَهَم أطراف داخليّة على الحُكم والرياسة، الأمر الذي تطوّر بطبيعة الحال إلى تصدّعٍ في مؤسّسات الدولة التي كادت أن تنتفي لولا الوعي وإرادة الصمود عند مؤسّسة الجيش اليمني الذي مثّل الضمانة الحقيقية لبقاء المؤسّسات، وبالتالي حماية كينونة الدولة من السقوط والتهاوي في المجهول.

أما على مستوى الاقتصاد الوطني فقد أدّى الحِصار المُطبَق على الموانئ والمطار وعلى المصرف المركزي من قِبَل السعودية والولايات المتحدة إلى تدهورٍ مُريعٍ في وضع الاقتصاد والعملة ، ولولا تداعي هيئات المجتمع المدني المُتمثّل بأبناء القبائل وباقي المنظمّات الأهليّة لدعم المصرف المركزي ورَفْدِ الجبهات بالمؤن والمساعدات المختلفة ، فلولا تلك الوقفات التي لم يشهد لها العالم مثيلاً من قبل ، لتداعى وضع العملة ولانهار الاقتصاد الوطني ومعه بقيّة المؤسّسات الأخرى.

لقد استطاعت الجبهة الداخليّة في اليمن الحفاظ على العناصر الأساسيّة التي تضمن بقاء الدولة وعدم انهيارها ، فبالتفاف قسم وازن من الشعب حول مبادئ أنصار الله استطاع اليمنيون الأحرار ضمان اللحمة الوطنيّة ، وبسيطرة الجيش على ساحة الأمن الداخليّة استطاع بذلك حماية عنصر الدستور والمؤسّسات ، وبما يختصّ بالعنصر الثالث وهو الأرض فقد استطاعت اللجان الشعبيّة ردّ زحوفات غُزاة الخارج ومرتزقة الداخل بملاحم بطوليّة قلّما شهد لها التاريخ مثيلاً.

لم يكن بعيداً عن أحفاد مملكة سبأ أن يُجيدوا إدارة الأزمة وقد أصاب المُنظّرون الذين أضافوا عنصريّ الثقافة والحضارة إلى عناصر الدولة ، كما لم يكن مُستغرباً فشل الغُزاة عسكريّاً فاليمن هي الدولة الوحيدة تقريباً التي لم يدخلها غاز ، كما أنها الأمّة الوحيدة التي استطاعت عبر الأجيال الحفاظ على نقاء الدمّ ، ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه بشدّةٍ في مثل هذه الحال يدور حول ماهيّة المبنى الذي حكم الفكر الأميركي، أو بعبارةٍ أخرى “أيديولوجيّة القوّة في العقل الأميركي ومقوّماتها الفعليّة”.

يُدرك المتابعون عموماً وأهل الشرق الأوسط على وجه الخصوص أنّ مبدأ القوّة كأصلٍ يقوم عليه الصّراع ، هو مبنيّ في العقل الأميركيّ على التفوّق العَدَديّ الكبير وعلى قوّة المال وعلى التكنولوجيا في التسليح والمعلومات والعمليات النفسيّة والافتراضيّة، وعلى هذا الأساس كان اعتمادهم على السعوديين الذين سعوا بجهدٍ باتجاه إنشاء تحالف يضمن لهم ما يكفي من تفوّقٍ عَدَدي، والذين لديهم ما يكفي من مالٍ لشراء الذِمَم والمُرتزقة ولنفقات الحرب، كما ولديهم جيش مُسلّح بأحدث أنواع الأسلحة والمنظومات.

لم يعرف الأميركيون ولن يعرفوا على الأرجح أن حسابات القوّة لديهم مبنيّة بالأصل على مُعطياتٍ منقوصةٍ، فمَن يحمل السيف ليتراقص به أمام ترامب وغيره أو ليهوي به على رأس شيخٍ أعزل أو فتاة بريئة، ليس كمثل مَن لا يُفارقه خنجره وإذا استلّه من غمده فلطعن جبّار في الأرض أو مُفسِد. ومَن يتلذَّذ بفاخِر الأطباق لتصبح حاله كحال البهيمة التي تكترش من أعلافها وتلهو عمّا يُراد بها، ليس كمثل من اعتاد جشوبة العيش ليصير كالنبتة العزيّة (البريّة) أصلب عوداً وأكثر وقوداً وأبطأ خموداً. ومَن يسعى وراء حفنة ريالات ليرتزق وهو لا يعرف أن نفس مرتّبه هذا سيؤول إلى غيره من المرتزقة بعد مقتله هو ليس كمثل من بلغ به برّه أن يُنفق في سبيل الله ماله لدعم المصرف المركزيّ والجبهات ولو كان به خصاصة…

وماذا عساني أقارن بعدُ بين كيان يدّعي أنه صاحب استراتيجيّات وسياسات في الوقت الذي تقوم فيه دولته على برامج خطط جاهزة ومُعلّبة من البيت الأبيض، وبين أمّة قد تجلّت منها مُفردات التفاعُل الايجابيّ إلى الحدّ الذي انهارت وستنهار به ومعه كلّ اعتبارات القوّة الأميركيّة وستتبدّل وفقه كافّة متغيّرات ومفاهيم السياسة الدوليّة على كافة الأصعدة المحليّة والاقليميّة والدوليّة، وسيُدرِك المُستكبِرون ولو مُتأخّرين أن مُستضعَفي اليمن قد نالوا منهم في الحرب، ولكن ليس بميدان عمليات بريّ وجويّ وبحريّ وحسب بل بضربة في أصل عقيدة القوّة لديهم. نعم سيعرف الأميركيين أن هزيمتهم هذه إنما هي بضربةٍ على الرأس وطعنةٍ في الصميم.

نقلا عن الميادين