المقالات

هل ثمة هوية إسلامية بديلة للهوية الوطنية؟… بقلم / محمد علّوش

الجديد برس – مقالات

معد ومقدم برامج سياسية في قناة الميادين. حاضرَ في عدة مؤتمرات دولية حول الإصلاح السياسي والديني. حاصل على دكتوراة عن أطروحته “السلفيون في سياق الدولة الوطنية”. يحضّر حاليا أطروحة دكتوراة في أصول التربية بعنوان: التربية السياسية ودورها في تنمية الوعي السياسي عند طلبة الجامعات. من مؤلفاته المنشورة: داعش وأخواتها. التيارات السلفية: الأفكار والتنظيمات.

لا استقرار مجتمعي ولا ائتمان على مكتسبات الدولة -أيّة دولة- من دون مواطنة فاعلة. كما لا مواطنة حقيقية ما لم يكن هناك قدر من الوعي بالهوية الوطنية حاضراً في داخل كل فرد من افراد المجتمع، اذ أن الشعور بالانتماء للوطن هو المُولّد الطبيعي لقِيَم الولاء للكيان السياسي.

وأيّ راصد لأدبيات الحركات الإسلامية يجد أن تعريفاً للهوية لديها غارق في العمومية والضبابية ومُتلبس في كثير من الإشكاليات التي جعلت البيئة الإسلامية بيئة طاردة لاحتضان الدولة وحمايتها من السقوط. فمن أين نشأ الخلل؟

في كتاب “التعريفات” للشريف الجرجاني ، عرّف الهوية بأنها:” الحقيقة المُطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المُطلق”. وقال ابن منظور صاحب “لسان العرب”: “والهوية قد تعني ذات الشيء أو جوهره”. وهو كما نلاحظ من تعريف اللّغويين العرب لها بأنها جوهر الشي وكينونته، وهو تعريف محايد إلى حدّ بعيد وشبيه بالتعريفات الحديثة مثل تعريف قاموس أكسفورد لها بوصفها “حالة الكينونة المتطابقة بإحكام، والمتماثلة إلى حدِّ التطابق التام أو التشابه المُطلق”. لكنّ تعريف الهوية هذا على وضوحه وبساطته، سيأخذ لاحقاً بُعداً أيديولوجياً مع ظهور حركات الإسلام السياسي، وسيكتسب دلالات مشبّعة بالأطروحات المتأثّرة بـ “الحداثة” الغربية التي كان من أبرز إنتاجاتها السياسية ظهور القوميات اليمينية المتطرّفة مثل “الفاشية” و”النازية”، وغيرها.

ولعلّ من الأهمية بمكان إعادة تعريف “الهوية” عند الإسلاميين ، إذ أن ذلك من شأنه تفكيك جزء من الأيديولوجيات الطاردة للدولة الحديثة، كونها في الموروث الجمعي للأطروحة الإسلاموية منتجاً غربياً مريباً زُرع في المجتمعات المسلمة لتمزيقها وإبعادها عن وحدتها وكينونتها الطبيعية التي عرّفها القرآن بـ “الأمّة” في قوله تعالى: ” كنتم خير أمّة أخرجت للناس”. فالمؤمنون أو المسلمون هم أمّة واحدة من دون الناس. وتقسيمهم إلى أمم على أسُس جغرافية أو عرقية أو لغوية، هو أمر ينقض أسُس البناء القرآني للأمّة، ويفتّتها إلى كيانات متناحرة تكون أقرب ما تكون إلى “الجاهلية” في تعريف سيّد قطب. وسبق أن حذّر الرسول الكريم من عودة المسلمين إلى “الجاهلية” حين أراد فضّ نزاع بين قبيلتيّ الأوس والخزرج، وكلاهما من الأنصار الذين احتضنوا المهاجرين إلى يثرب (المدينة المنورّة ) مطلع الهجرة النبوية، فقال النبي، حين تداعى القوم إلى التنابز بالألقاب وامتشاق السلاح على إيقاع التغنيّ بالأمجاد: أبدعوة الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها مُنتنة!.

فَهِم الإسلاميون من هذا الحديث، معطوفاً على بضع آيات في القرآن الكريم، أن الانتماء للإسلام يزيل بالضرورة الانتماء لأية هوية أخرى. فالإسلام هو “صبغة الله”. ولهذا نجد شريف جابر في كتابه “الهوية والشرعية” يعرّفها بأنها “حقيقة ذاتية تشكّل محور استقطاب للأمّة أو للفرد وتميّزهما عن غيرهما.. لا تتحقّق في الهويات المنتشرة بين أبناء الأمّة الإسلامية إلا في هوية واحدة؛ هي الهوية الإسلامية. ذلك أنّها هي وحدها التي تعبّر عن الكيان الاختياري للإنسان”. في حين يرى عمر الأشقر في كتابه “معالم الشخصية الإسلامية” أنّ الهوية وفق التصوّر الإسلامي هي “الصبغة” التي جاءت في قوله تعالى :” صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً” فالصبغة هي الهوية، وسبق أن صبغ الإسلام المسلم بصبغة خاصة في عقيدته وفكره ومشاعره وتصوّراته وآماله وأهدافه وسلوكه وأعماله.

وخصائص الهوية الإسلامية كما يمكن استخلاصها من كتابات الإسلاميين نجد أنها تتميّز وفق مفهومه بأنها هوية ربّانية أي إنتاج وتوصيف إلهي وليست إنتاجاً بشرياً، وهي هوية إنسانية أي صالحة لجميع البشر لأنها تلائم الفطرة التي فطر الله الناس عليها. وهي هويّة اختياريّة: بمعنى: أنّ الإنسان مخيّر في تبنّيها حين يرتضي الإسلام عقيدة ومنهجاً في الحياة، وهي هويّة ثابتة ومتكاملة فتحدّد من هو الإنسان؟ وماذا يريد؟ وما هي المعايير التي تحكم حركيّته؟. فالهوية، عند هؤلاء، مُرادفة للدّين، ولا يمكن الفصل بينهما إلاّ أنهم انقسموا إلى تيّارين: تيّار رافض مطلقاً الحديث عن هوية أخرى غير إسلامية، معتبراً الدعوة إلى الهوية القومية مثل “الفرعونية” أو “الفينيقية” هي دعوة مُضادّة للإسلام ومنافية له. وتيّار آخر أقرّ بوجود هويّات فرعية، لكنه دعا في المقابل إلى عدم التعصّب لها على حساب الهوية الأمّ أيّ الإسلام. فالإسلام أذاب الفروقات بين الشعوب وربط بينهم على أساس واحد وهو التقوى، حينما اعتبر أن الجميع ينحدرون من أصل واحد وأنّه لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.

والهوية، وفق هذا التوصيف، تبدو معطى جاهزاً قائماً داخل زمنية مقدّسة لا مجال لمساءلتها، متّخذة طابع القدسية والتسامي، لأن تعاريفها تُبنى على الطابع العفوي والعاطفي، وثنائية الأنا والآخر، والرفض أو القبول المُطلقين. وتعريف الهوية القائم على الثبات والمُطلق يؤسّس لأوهام “الحقيقة المُطلقة” خارج مفاهيم التعدّد والمغايرة، وفقاً لـ “عزيز مشواط ” الذي يعرّفها  “كوعي مُتحرّك وحيوي بالصيرورة وبالمغايرة والاختلاف، وهي إدراك نقدي مُتفتّح على الآخر”، فهي تتشكّل في إطار من صيرورة وبناء متواصل ومتجدّد للذات. بدوره، يعتبر عبد الكريم الخطيبي في كتابه “النقد المزودج” الحديث عن هوية صافية غير ملوّثة، هي هوية ميتافيزيقية ولاهوتية، إذ “لا يمكن للهوية الأصلية التي تقوم على الأصول اللغوية والدينية والأبوية أن تُحدّد وحدها العالم العربي. فهذه الهوية قد تصدّعت وتمزّقت بفعل الصراعات والتناقضات الداخلية. ثم إنها مُرغمة على التكيّف مع مقتضيات الحياة العصرية والتفتّح على العالم”.

هذا التركيب لمفهوم الهوية عند الإسلاميين يعود لطبيعة الصراع القائم بين العلمانية والإسلاميين في العالم العربي منذ انهيار السلطنة العثمانية. ولم يعد مصطلح الهوية مرادفاً لتعريف الذات أو تحديد القوميات الفرعية، بقدر ما أضحى إثبات حضور الإسلام كدين في وعي ووجدان الناس بعد حال التمزّق الرهيب والاقتتال واندثار الرؤية في المجتمعات العربية. ولعلّ الإشكال الذي يقع فيه الإسلاميون أنهم جعلوا الهوية هي الاعتقاد القابل للاختيار العقلي. والحال أن الهوية لا يملك معها المرء الاختيار من عدمه. إذ أنها بصمة بيولوجية وجغرافية وتاريخية وثقافية. كما لا يتطلّب الاعتراف بالهوية والاعتزاز بها إعلاء من شأن العرق أو الأرض بين الأمم، إذ أنه يناقض البُعد الإنساني في تعريف الهوية. ولعلّ الهوية التي يمكن تحديدها هي الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للمجتمعات بما لا يتناقض مع البّعد الإنساني للقِيَم. والانتماء والولاء للإسلام لا يُناقض ولا يُزاحم الانتماء للوطن ولا ينتقص من قيمة الوطنية والمواطنة عند المسلم.

فالهوية مفهوم مَرِن، بسيط ومعقد في آن. ويمكن تصوّر الهوية على أنها دوائر متعدّدة متداخلة ومتوالية الحجم، ويتضمّن الأكبر منها الأصغر. فالدائرة الإسلامية هي الوعاء الأكبر للمسلمين، وتضم داخلها دوائر فرعية غير متقاطعة مثل الدائرة العربية وغير العربية، وداخل الدائرة العربية هناك دوائر أصغر مُتباينة مثل الدائرة اللبنانية والدائرة المصرية وهكذا دواليك. فكلما تحدّثنا عن محدّد جديد مثل العرق أو الجغرافية أو اللغة او القبيلة تظهر دائرة جديدة ضمن الكيان العام المشكّل لهوية الفرد. وعند الحديث عن الهوية بمفهومها السياسي فلا يفترض بحال أن تتعارض مع الإسلام طالما أن الهوية وفق تعريفها الإسلامي هي ذات نزعة إنسانية وكونية، أي أنها فضاء تتّسع لما دونها من هويات فرعية شرط ألا تتحوّل إلى تعصّب، وطالما أن الدولة الحديثة أصبحت أمراً واقعاً وتكرّست ثقافةً ومجتمعاً وتاريخاً مشتركاً ونظاماً سياسيا.