منوعات

عبدالباري عطوان يكشف عن ما قاله الأمير السعودي طلال بن عبدالعزيز في آخر مكالمة هاتفية معه قبل وفاته..!!

عبدالباري عطوان يكشف عن ما قاله الأمير السعودي طلال بن عبدالعزيز في آخر مكالمة هاتفية معه قبل وفاته..!!

الجديد برس

لم يَحْظَ أميرٌ سعوديٌّ بشعبيّة في العالَمين العربيّ والإسلاميّ مِثل الأمير طلال بن عبد العزيز، الذي انتَقل إلى جِوار ربّه قبل يومين بعد صِراعٍ طَويلٍ مع المَرض، لأنّه كانَ يُجَسِّد مِن خِلال مواقِفه السياسيّة، والجُرأة في طَرحِها، إيمانًا بالإصلاح، ومُعاداة الاستِعمار، والتَّمَسُّك بحُقوق الإنسان، وضَرورة احترامها، وانْحاز دائِمًا إلى المُواطن وحُقوقه، وطالَب بملكيّة دستوريّة، وانتِخابات حرّة نزيهة، ومجلس شورى مُنتَخب، وبالمُساواة والحُقوق الكامِلة للمَرأة.

هَذهِ المَواقِف التي جاهَر بِها وتبنّاها مُبْكِرًا في دولة تَحكُمها أُسرة مُحافظة جدًّا وتعتنق المَذهب الوهابيّ، دفعت بِه إلى مُغادَرة بلاده (عام 1958) مُكْرَهًا إلى مِصر جمال عبد الناصر مع اثنين مِن أشقّائه، وحشَد مِن مُناصِريه المُؤمنين بقيمه ومبادئه، كلَّفته الكَثير، حيث عاش في مِصر الثورة منفيًّا لسنوات، حيث جرى تجريده من جنسيّته وجواز سفره، وأطلقت عليه وسائل الإعلام المصريّة في حينها زعيم الأُمَراء الأحرار، ومنحه الرئيس عبد الناصر جواز سفر مِصريًّا تَقديرًا له ولأشقائِه، ولكنّه عادَ إلى الرياض بعد انْدِلاع حرب اليمن التي عارَضها بقُوّة، ولم يتولَّ أي منصب مِن حينها، وهو الذي دخل تاريخ بلاده كواحِد مِن أصغِر الوزراء، حيث تولَّى وزارة المُواصلات ثم الماليّة.

***

الأمير طلال، رحمه الله، عارَض القواعِد الأمريكيّة في الوطن العربيّ، والمملكة العربيّة السعوديّة خاصَّةً، واتَّخَذ مواقِف قويّة صلبة ضِد الاستِعمار الغربيّ، ولهَذا أطلَق عليه الغربيّون لقب “الأمير الأحمر”، وظَلَّ وَفيًّا وداعِمًا للقضيّة الفِلسطينيّة طِوال حياته.

لم يَكُن الأمير طلال طائفيًّا، وكانَ عُروبيًّا حتّى النُّخاع، حتّى أنّه سأل الرئيس عبد الناصر سُؤالًا مُحْرِجًا عن السبب في عدم وجود ضابِط قبطي ضِمن الضُّبّاط الأحرار الذين فجَّروا الثورة المِصريّة (عام 1952)، وكان مُصيبًا في هذا السُّؤال، مُنطَلقًا مِن حِرصِه على الوِحدَة الوطنيّة المِصريّة، ومُنَبِّهًا لأقوَى روابِط التعايش بين كُل مُكوِّنات النسيج المصري، بشَقّيه القبطيّ والإسلاميّ، وكانَت له صداقات قويّة مع رُموز الأقباط، وتَواصَل طِوال حياته مع الأنبا شنودة، بابا الكنيسة المصريّة، وأكَّدت مصادِر عديدة أنّه كان يزوره أثناء زياراته الدائمة لمِصر.

قاطَعه الإعلام السعوديّ لفَترةٍ طَويلةٍ بسبَب مَواقِفه هَذهِ، فوجَد مكانًا رَحَبًا في نظيره العربيّ والأجنبيّ معًا، بسبب آرائِه الانتقاديّة القَويّة، ومُطالباته بالحُريّات والبَرلمان المُنتَخب، وحُقوق المَرأة في بلاده والعالم العربيّ بأسْرِه، وحَظِي اللِّقاء الذي أجْرَته معه محطَّة “الجزيرة”، وبثَّته على حلقات بمُشاهَدة ربّما كانَت الأعلى في تاريخِها، لصَراحته وما احتواه مِن كَشْفٍ للأسرار لمَرحلةٍ حسّاسةٍ في تاريخ الأُمّة العربيّة، خاصَّةً تِلك المُتَعلِّقة بحَرب اليمن والحِقبة الناصريّة.

في أحد المَرّات أجريت مُقابلة معه في باريس، فعَتِب عليه بعض أشقائِه في السُّلطة لأنّه كانَ صَريحًا مُطالبًا بانتخابات حُرّة في بلاده أوّلًا، ولأنّه نشَرها في الصَّحيفة التي كُنت أتَرأس تَحريرها في حينَها باعتِبارها ناقِدَةً لبَعض السِّياسات الرسميّة السعوديّة، فقَال لهم، أينَ تُريدونني أن أنْشُرها، فقَد أغلقْتُم في وَجهِي كُل صُحفكم وإعلامكم.

كانَ الأمير الراحل مُهتَمًّا بالثَّقافة العربيّة، ويُؤمِن بأنّ التَّعليم هو الطَّريق الأقصَر للتَّحديث السياسيّ والاقتصاديّ والمُجتمعيّ، وكانَت له صداقات مع الكَثير مِن الكُتّاب والأُدَباء العَرب، ومِن أبرز إنجازاتِه في هذا المِضمار تأسيس الجامعة العربيّة المَفتوحة التي وفَّرَت فُرَص التَّعليم الجامعيّ لعَشراتِ الآلاف مِن الطلاب، وبرُسومٍ رمزيّة، ومِنَح دِراسيّة.

لم يَتَردَّد مُطلقًا في اتِّخاذ المَواقِف الصَّعبة والتَّعبير عن رأيه عِندما يرى اعْوِجاجًا فقد استَقال مِن هيئة البيعة الذي كان أحد أبرز أعضائها ويتَولَّى منصب نائب الرئيس فيها، عندما أدرَك أنّ شقيقه الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز تجاوَز بُنود نِظام تأسيسها، وخاصَّةً كيفيّة اختِيار وليّ العهد، وتثبيت منصب وليّ وليّ العهد، الذي كان يَعتقِد جازِمًا أنّه مَنصب غير شَرعيّ، ولا يَعنِي تولّي صاحبه ولاية العهد بصُورةٍ آليّةٍ، عَلاوةً على قضايا أُخرَى عَديدة لا يتَّسِع المَجال هُنا لذِكْرِها.

***

في آخِر لِقاء معه في عاصِمةٍ أُوروبيّة، حيثُ كانَ في طريقه إلى الولايات المتحدة للعِلاج، كان يعيش حالةً مِن اليأس مِن جرّاء تدهور الأوضاع في المملكة والعالم العربيّ بشَكلٍ عام، والحَرب في سورية، ولكِنَّه للتَّاريخ كانَ مُؤيِّدًا بقُوَّةٍ لمَطالِب الشُّعوب العَربيّة في العَدالة والديمقراطيّة والقَضاء على الفَساد.

أمَّا آخِر مُكالمة هاتفيّة معه فكانَت قبل أربعة سنوات تَقريبًا، وبعد إطلاق “عاصفة الحزم”، أو إشعال فتيل الحَرب في اليمن، وكانَ قَلِقًا جِدًّا وذَكَّرنا بأحَد أهَم الفُصول في سيرَة والده المُؤسِّس الملك عبد العزيز، وقراره بإرسال مُوفَد على وجه السُّرعة إلى نَجْليه، سعود وفيصل اللذين كانَا يَشُنَّان حملةً في الجنوب يُطالِبهما بالانسحاب فَوْرًا مِن الساحل الغربيّ اليمنيّ، وبِالذَّات مدينة الحديدة، لأنّ اليمن كان مقبَرة العُثمانيين، واقترح علينا قراءة مُذكَّرات عبد الله فيلبي، الضَّابِط البريطانيّ السَّابِق ومُستشار المَلك المُؤسِّس في حينِها، الذي وَثَّق هَذهِ الواقِعة، ولقائِه الشَّهير معه، أيّ الملك عبد العزيز، في قَصْرِه بالطَّائِف مُحْتَجًّا على هَذهِ الخُطوَة.

رَحِم الله الأمير طلال بن عبد العزيز وأسْكَنهُ فسيح جنّاته، فقَد كان شخصيّة مُتَميِّزة، تَسْتَحِق الاحتِرام والتَّقدير، سواء اختَلف معَه البَعض أو اتَّفَق، والكَمالُ للهِ وَحدَهُ.

  • عبدالباري عطوان – رأي اليوم