المقالات

لمن تقرع أمريكا أجراس السلام؟

الجديد برس : رأي

صلاح الدكاك

تحتاج أمريكا إلى إعادة هيكلة بيتها الخليجي بدءاً بالمملكة السعودية، بعد 4 أعوام من عدوان خائب على اليمن، عمَّقت تداعياته المرتدة تناقضات البنية الوظيفية لكيانات الطفرة النفطية.
على خلفية هذه الحاجة الأمريكية لإعادة الهيكلة بغية تلافي التداعي الدراماتيكي لبيتها الخليجي، فإن “واشنطن بمعاونة رئيسة من لندن ذات الباع الاستعماري العريق”، يعوزها وضع حد لملف “الحرب في اليمن”، بما يتيح لها تدارك نفوذها الآيل للسقوط في الخليج من جهة، ووضع اليمن على سكة سياسية تفضي لذات الأهداف الاستعمارية التفتيتية المرجوة التي أخفق عدوانها في إنجازها عسكرياً، ومن جهة موازية متزامنة.
لا عسكرة بلا سياسة، ولا سياسة بلا عسكرة؛ لذا فإن “واشنطن” حين أعلنت، الأسبوع الفائت، على لسان وزيريها للدفاع والخارجية، عن دعمها لوقف “الحرب في اليمن” والعودة لمفاوضات سياسية استبقها “بومبيو” بوضع محددات حاكمة لها أبرزها “الحكم الذاتي”، لم تغفل ـ بطبيعة الحال ـ الروافع العسكرية المحلية لما تستهدف تحقيقه من تسوية سياسية بإعلانها الحمائي هذا..
ليست المحددات التي طرحها “بومبيو” ـ في الحقيقة ـ سوى مناولة تحريضية أخرى ـ لها سابقاتها أمريكياً ـ ترمي من خلالها “واشنطن” إلى إحماء وتذكية واستدعاء عصبويات اجتماعية مناطقية طائفية تعهدتها بالتنمية طيلة عقود الوصاية، وخاضت خلفها عدوانها الراهن على اليمن..
عصبويات تدرك واشنطن أنها بدأت تخبو بفعل انقشاع أدخنة الافتراءات والأباطيل التي لبَّدت بها سلطة الوصاية فضاء الاتصال الصحي بين الرأي العام المحلي وبين المسيرة القرآنية وحركة أنصار الله، لتتمظهر الحقائق الدامغة لهذه الأباطيل بالقول والفعل تباعاً في الأداء الثوري الوطني للحركة، والمفتوح على اليمن كل اليمن وأماني شعبها بمختلف طيوفه، محفوزاً بقيم قرآنية هي على نقيض ما خبره الشارع خلال تجاربه المريرة والمديدة في مواجهة جائحة مشتقات الإسلام الإخواني الوهابي..
في غضون الأعوام من انتفاضة 2011 مروراً بثورة أيلول 2014، واستمراراً بمجريات الملحمة الفدائية الراهنة التي تخوضها القوى الثورية والوطنية بقيادة أنصار الله في مواجهة تحالف قوى العدوان والاحتلال الأمريكي السعودي، انفسحت آفاق اتصال صحي جماهيري بين الحركة والرأي العام المحلي ـ تجاوزاً إلى العربي والإسلامي ـ أمكن معها للحركة مد وشائج وثيقة ومتنامية مع محيطها الاجتماعي والسياسي بتعدد دوائره ضيقاً واتساعاً، كما والوقوف على أرضية موضوعية متماسكة تتيح لها مخاطبة العالم بظهير شعبي واسع الطيف يغطي مختلف مضامير وجغرافيا ملحمة الدفاع الوطني خوضاً ونفيراً ورفداً غير محدود.
إزاء هذه الحقائق التي باتت جلية لأمريكا، فإن مناولتها التحريضية العصبوية المواربة خلف دعوة “ماتيس ـ بومبيو”، تبدو أقرب إلى ضربة حظ أخيرة تستهدف احتراباً أهلياً كاملاً بالإنابة، منها إلى توجه فجائي جاد لإحلال السلام في اليمن.
المسكوت عنه في هذه الدعوة هو: “إننا نقر للحوثيين ونعترف لهم بالسيطرة والسيادة على حاضنتهم الاجتماعية الزيدية ونطاقها الجغرافي”.. وهكذا فإن “الديمغرافيات المذهبية والمناطقية غير الزيدية” التي يقود “أنصار الله” فيها وعليها معركة الوطن كل الوطن، يتحتم على مجتمعاتها ـ وفق التحريض والاستدعاء الأمريكي ـ أن ترفع الغطاء عن حماة الأرض، وتنسحب من المعركة في مواجهة غزاتها الأجانب لتنخرط في مواجهة مع حماة الأرض وأبنائها، بدعوى أنه قد بات لهم نطاق حكمهم الذاتي بـ”التوافق مع أمريكا”.
عدا ذلك، فإن تسمية “الحوثيين لحكم ذاتي مذهبي” أمريكياً، هي مغازلة فاضحة لأطماع وطموحات أسرية وتباينات مذهبية “زيدية” ترمي “واشنطن” لتعبئتها ضد “الحوثيين” كاحتراب بارد نأمل أن يحمي وطيسه ليغدو حرباً بين “خلطة مشجرات” تتناوش السيادة على نطاق “حكم افتراضي”، تبعاً للأماني الأمريكية الغرورة وحسابات دعوة “واشنطن للسلام”.
فقط في ظل ديمغرافيا يمنية مشرذمة ومحتربة، سيكون بوسع أمريكا احتواء وإعادة ترتيب وبناء البيت الخليجي المتداعي الهرِم، كما وستنتفي الحاجة اليمنية إلى “أسلحة استراتيجية باليستية ومسيرة”، لأن سناريو التآكل الذاتي العصبوي بين كانتونات انعزالية طائفية ومناطقية ـ إن حصل ـ لن تعوزه وسائط نارية طولى وبعيدة المدى، ويمكن لساطور وبندقية وعبوة ناسفة وكاتم صوت أن يغْنيَ غِناءَ “الأسلحة الاستراتيجية المنزوعة بالتوافق” وبفاعلية تفوقها أضعافاً في حساب ضآلة وانحطاط أهداف الاحتراب المأمول أمريكاً.
تريد “واشنطن بمعاونة لندن” بهذا السيناريو، إلى ذلك، تثمين ما تحت اليد من جغرافيا محتلة جنوباً ووسطاً وشرقاً، عبر استنهاض مجتمعاتها لخوض معركة “الأجدر بالسيادة على نطاقه الجيوسياسي”، لا سيما جمهرة المزاج الانفصالي الجنوبي المراوحين في مربع كيل “أماني الدولة المستقلة” من قبل عديد أطراف وأطر محلية موصولة بدول تحالف الاحتلال ومشروعه..
لقد شرعت أماني ووعود تحالف الاحتلال للساذجين في الجغرافيا المحتلة بـ”التمكين الذاتي الفيدرالي والانفصالي”، ترتد حمماً في وجهه، وانفضاحاً لأطماعه ونواياه الاغتصابية الخبيثة بالنسبة لأكثرية المغرر بهم والمغلوبين على أمرهم، وتحديداً مع انقشاع أوهام الرفاه القادم لجهة انهيار معيشي كارثي حاد لمقومات البقاء قيد الحياة بالحد الأدنى، وفقدان الإحساس بالأمل والأمن في مناخ مافوي جرائمي متعدد الرؤوس ومتضارب الأطماع.
وفي هذا السياق، فإن توجه أمريكا بنبرته الحمائمية المحدثة، هو لجهة نقل تبعات الأماني الكذوبة والمآلات الكارثية من عاتق المحتل، وإجهاض كاهل المدافعين عن الأرض بها.. ” إن من يحول دون حصول الجنوبيين على دولتهم المستقلة هو تعنُّت الحوثيين”..
ومن يباعد بين تعز ومأرب وسيادتهما على إقليمهما وثرواتهما، هو تهديد الحوثيين المتنامي عسكرياً للجوار الخليجي الذي يعقد الحوثيون معه صفقة لابتلاع الأقاليم كلها مقابل كف الأذى عن الجوار..
إن أمريكا ليست على خلاف مع إيران، بل هما يتآمران معاً على اليمن، وقد اتفقتا على تمكين الحوثي منها لاستنزاف دول الخليج العربي، وضرب سنية وعروبة اليمنيين!”.. هذا هو المونولوج النفسي والوسواس القهري الذي تأمل أمريكا بدعوتها أن يسود، وأقلُّه فإنك ستجد من يصرخ مصدقاً “لولا هوس الحوثي بالحرب ورفضه تسليم السلاح الباليستي والاعتراف بالأقاليم الأخرى، لكنا الآن ننعم برواتبنا، ولتيسرت معايشنا وانتهى الحصار.. فليذهب الباليستي إلى الجحيم مقابل الخبز”!
على أن منطق الوعي بالصراع هو منطق يناكب اليوم بقوة منطق أباطيل الشيطان الأكبر وعبدته المحليين والإقليميين، وينتصر عليه، ولا تعوزه الحقائق الموضوعية التي يدحض بها تلك الأباطيل من واقع مجريات 4 أعوام عدوان كانت خلالها ولا تزال مجتمعات الجغرافيا اليمنية المحتلة هي الأقل حرمةً واعتباراً في حسبان جرائم وانتهاكات الاحتلال بحقها، في الوقت الذي كان خلاله التحالف ولا يزال يحسب ألف حساب لأثمان جرائمه بحق جغرافيا السيطرة الوطنية، وإذا كان يبدي اليوم ميلاً لـ”السلام” أياً كانت نواياه منه، فلوجه “بركان 1، 2، وبدر بي 1، وصماد 3،..” وغيرها من مقدرات الردع المتنامية، لا لوجه الرغبة في السلام وتنامي المأساة الإنسانية والمجاعة وسوء التغذية، فهذه الكوارث الأخيرة هي من صنائع عدوانه الممنهجة، لا عرضاً جانبياً لـ”حرب أهلية يدعو ماتيس لوقفها” رأفة بضحاياها.
إن للعدوان أهدافه التي أفشلناها ميدانياً، وليس من المنطق أن نقبل بتمريرها عبر طاولة المشاورات السياسية، فدفاعنا الفذ وصمودنا بوجه العدوان لم يكن دفاعاً وصموداً لوجه وقف عدوان عرضي، بل لوجه أهداف نبيلة نرمي لتحقيقها، ولوجه حقوق مشروعة ينبغي أن يقر بها العدو لنا بالعسكرة أو السياسة!
لقد قاتلنا لنعيش أحراراً وأسياداً على أرضنا وثرواتنا وقرارنا واستقلال توجهاتنا الداخلية والخارجية بناظم مصلحة شعبنا وقضايا أمتنا العربية والإسلامية..
وسنفاوض لذات الأهداف والحقوق، لا لنهدرها باسم السلام وحقن الدماء، ونعود إلى بيت الطاعة ورسن الوصاية والتبعية مجدداً..
هذا ما لم يكن ـ قال سيد الثورة أبو جبريل ـ ولن يكون، وخيارنا بالأمس واليوم وغداً هو الصمود ذاته والصمود والصمود إلى أن يأذن الله بالفتح ونصر من عنده.