المقالات

آخر ما قاله خاشقجي

الجديد برس : مقالات

أحمد الحسني

لفترة طويلة من حياته المهنية كصحفي مقرب وسليل أسرة مقربة من الأسرة المالكة السعودية، ظل جمال خاشقجي مصدراً مهماً لتلقي ما تريدنا تلك الأسرة أن نتلقاه من أخبارها الملكية، وتسريب ما تحب الإيعاز به إلينا من سياساتها وخفاياها. وباختفائه في القنصلية السعودية في تركيا، وما رشح من أخبار تؤكد قتله وتقطيعه في المقر الدبلوماسي السعودي، قال خاشقجي الكثير ولكن مما لا تود الأسرة السعودية أن نعرفه، وبمعنى أدق الكثير مما لا يجب أن يتلقاه الجمهور من أخبار مملكة تلك الأسرة.
كان خاشقجي بوقاً ناعماً لإيعازات حكام السعودية السابقين، وما يقوله مصدر إقلاق لمن تريد مملكته. ثم بفعل السخط الملكي عليه أصبح منفذاً محتملاً لما يتحفظ عليه الحكام الحاليون، ومصدر قلق لهم. غير أنهم أسكتوه بفضيحة أكبر من كل فضيحة كان يحتمل منه نشرها، وحولوه من مصدر قلق محتمل إلى كارثة حقيقية على حكام المملكة، وباب ابتزاز مفتوح على مصراعيه أمام حالبي البقرة.
لقد قالت جريمة إسكات خاشقجي في يوم واحد ما لم يكن بمقدوره أن يقوله، وكانت أسوأ أثراً وأبعد مدى من كل ما كان بإمكانه أن يقوله ويكتبه مهما امتدت به السنوات وطال به العمر، فالرجل وإن عاش قريباً من دوائر القرار في المملكة
وأجهزة استخباراتها لا تشكل حياته خطراً وجودياً على المملكة، وتظل إمكانية تهديده لعرش بن سلمان وأبيه هامشية مقارنة بتهديدات معتقلي الريتز كارلتون والناقمين عليهما من أقطاب الأسرة الحاكمة ورموز المؤسسة الدينية الوهابية ومشائخ العشائر المؤثرة على جماهير الداخل. كما أنه لم يكن صاحب سجل نضالي يحظى بتأييد الخارج، سواء باسم قضية عادلة كحقوق الأقليات مثل جعفرية المنطقة الشرقية وإسماعيلية الجنوب، أو باسم مشروع إصلاح سياسي أو تيار فكري كليبراليي الداخل ومعارضي الخارج، بل لا يكاد يحظى اسم خاشقجي بدرجة تذكر في معايير الخطورة عندما نضعه في مصفوفة مقارنة تضم أمراء مثل أحمد بن عبدالعزيز ومحمد بن نايف والوليد بن طلال ومتعب بن عبدالله ومشائخ مثل سفر الحوالي وعوض القرني وسلمان العودة ومفكرين كالغذامي والمالكي ومناضلين كالصفار واليامي والنمر والمسعري وحتى الفقيه… ويصبح مجرد التفكير في اغتياله، بغض النظر عن كونها جريمة، حالة من العته القياسي يستحق عليها بن سلمان دخول موسوعة جينيس للحمير بكل جدارة. أما أن تتم جريمة الاغتيال في مبني دبلوماسي تابع للمملكة فإن ذلك يعني تخلي مملكة بن سلمان عن هويتها كدولة وإعلان نفسها رسمياً عصابة مافيا لا يختلف فيها بن سلمان عن أي تاجر مخدرات في أمريكا اللاتينية، إلا بكونه الأثرى والأكثر غباء على الإطلاق.
ما كان بمقدور الصحفي جمال خاشقجي، مهما عاش وقال وكتب، أن يشكل خطراً حقيقياً على أصغر دولة؛ لكن جريمة اغتياله في قنصلية بلده في تركيا أكدت للعالم كله أن مملكة بن سلمان قد صارت أصغر بكثير من أن تكون دولة حقيقية.
وهذا آخر ما قاله خاشقجي.