المقالات

ميزان مختل

الجديد برس : رأي

صلاح العلي

عزيزي الطفل الشهيد المتجول في أرصفة الجوع بكل شرف وتفانٍ وعزة..
اغتالوك يا صغيري كعادتهم بقطف الابتسامات والأنفاس والسكون والأحلام.. كنت تحمل (ميزانك) وتحمل معه أصوات الأمعاء الفارغة التي تتركها خلفك كل صباح، تعتاد جوعك ليأكل ذووك، وترى المترفين المتكرشين يمرون أمامك دون أن تفكر بمد يدك لهم لتتسول شفقتهم القبيحة.
كنت تسمع السماء مكتظة بالموت المحلق القادم من صحراء القبح والحقد، دون أن ترمش عيناك تهيباً. كنت ثابتاً ثبات رجالنا المدافعين في كل مترس. كنت عصامياً أمام حاجتك وجوعك وفقرك ولم ترغب أن تكون متسولاً أو تحوز شيئا من غير جهدك وكدحك.
عزيزي.. أعرف أنك لم تعر مدعي (حقوق الأطفال) و(حماتهم) من حياة التسول وعمالة الأطفال وتجنيدهم يوماً أي اهتمام. كنت تدرك أنهم مصاصو دماء لصوص يقتاتون من المتاجرة بمعاناتك ولم يلتفتوا إليك يوماً ولن يفعلوها إلا أن تكون قصة تدر ريعاً وفيراً لأرصدتهم الشبقة. ولأنهم لم يستطيعوا إخفاء القتلة دافعي أجورهم؛ فلست كذلك.. وهاهم أمام أشلائك ونزيف دمك وأنين روحك… صامتون كالعادة أكثر من الموتى، بل يصحو الموتى فزعاً من هول مظلوميتك كأنه الحشر، لكن أولئك لا يصحون.
أيها الوجع الذي لن يزول ما حيينا، إنك تحاكمنا بكل قسوة، لأننا تجاهلناك وخذلناك.. إنك تحاكم أولئك المترفين الذين صعدوا فوق (ميزانك) لقياس حجم التخمة والشبع المفرط وتكدس الأرداف والأفخاذ، بينما أنت تعاني فرط الجوع، تخبرهم بكبرياء وأنفة بالنتيجة ومعدتك تعتصر الفراغ والمعاناة أمام عيون ميتة وافئدة (موميائية) لا تكترث.
كان جهاز القياس (الميزان) ذو الـ300 سم2 هو كل نصيبك من الدنيا الجائرة، لكنها كانت جنتك وحدود عالمك الفسيح ومصدر فتات الفرح الذي تتحصله حين تكون القطع المعدنية النقدية مجدية كافية لامتلاك خبز يعانق البطون الخاوية ويهدئ روعها.
هل سمعت يوماً أيها المغدور عن شيء اسمه (العرب) و(الأمم المتحدة) و(الدول العظمى المتقدمة والمتحضرة والإنسانية) و(منظمات حماية ورعاية الأطفال) و(رسل ومبعوثي السلام)…؟!
لا بأس يا عزيزي، فها أنت تتعرف إليها جمعاء مرة واحدة، عرفت حقيقتها ومكنونها دون حاجة لتقليب الأغلفة المطرزة الساحرة البراقة…
إنها التي (زارتك) قبل أيام قليلة وتفقدت حالك، وتلك (حمائمها) الجوية (الملائكية) التي أودعتك (عنايتها الفائقة) ومسحت عناءك للأبد باقتلاعك للأبد.. تلك كانت زيارتها الأولى والوحيدة والأخيرة إليك، فالقائمة طويلة متكدسة بإخوتك في أحياء الصفيح والمنازل المنكسة.
إنهم عربٌ أيها المجهول حياً وشهيداً. إنهم عربٌ جداً، احتشدوا واجتمعوا واتفقوا، فقط وللمرة الأولى، من أجل ذبحك، وتنافخوا أنهم قدموك قرباناً على مذبح ربهم اليانكي (أمريكا). كُنت قربانهم الشهي أمام نبيهم الأمريكي (العم سام) المفتون ببقاياك، بينما هم يؤدون طقوس الولاء ويرددون أركان الإيمان الإمبريالي.. إنهم شاكرون لك كثيراً، قلبك وكبدك الطازجين اللذيذين في أفواه الزنابير.
إنهم عربٌ! وأشد مما تتصور! وحين قرروا حمل السلاح، فعلوا، لكن عكساً للبوصلة، بعيداً عن صرخات القدس ونابلس وغزة ويافا وعكا، وأغصان الزيتون والكروم الجافة البائسة.. جاؤوا إليك! أنت الإرهابي والناتو والفصل السابع والإمبريالية وروتشيلد! ولذا يحتفلون كل يوم بالانتصارات الأسطورية في معركة تنكيس الأسقف وذبح الأطفال وتأتيم الأعراس وإضافة موت إلى تجمعات العزاء ونسف البنية التحتية وحرق الزراعات…
يا غضبنا الأزلي، حين تلقى الله، فأخبره، أخبره بكل حرقة تسعرت فيك، كم كنت مظلوماً جائعاً مغبوناً برداناً خائفاً… كم حطموا قلب والداتك وسحقوه حين اقتلعوك منها، وكم حضناً دافئاً آمناً، وكم قبلة وابتسامة من وجهها الحميمي غادرتها غصباً، كيف ولدت جائعاً عارياً وارتقيت جائعاً عارياً..!