المقالات

مصر من العروبة إلى الانعزال

الجديد برس : رأي

محمد ناجي أحمد

في كتابه (الانعزاليون في مصر)، وهو مجموعة المقالات التي نشرها الكاتب رجاء النقاش، خلال الفترة من 21 أبريل إلى 13 يوليو 1978م، يبين لنا (النقاش) كيف كانت مواقف وكتابات بعض كبار مثقفي مصر تمهيداً ومواكبة لاتفاقية كامب ديفيد 1978م، التي عزلت مصر عن القضية الفلسطينية، وعن دورها القومي في المنطقة العربية.
كانت كتابات لويس عوض وتوفيق الحكيم وحسين فوزي تهيئة للعقول كي تتقبل وتُطَبِّع مع خطوات السادات المهرولة نحو الكيان الصهيوني، بل إن دورهم الثقافي الانهزامي والانتكاسي قد بدأوا به منذ عام 1972م، ومن ذلك ما صرحوا به عند مقابلتهم للرئيس الليبي عند زيارته لمصر في ذلك العام.
دعا (لويس عوض) في مقالة له بعنوان (الحياد) نشرت في (الأهرام) 3 مارس 1978م، إلى (أن تنفض مصر يدها من الصراع العربي والصراع العالمي معاً، وتهتم بشؤونها الخاصة)، وكأن مصر يمكن لها أن تكون دون دورها العربي!
وقد أيده في دعوته الدكتور (حسين فوزي)، وجاء انقلاب (توفيق الحكيم) من (عودة الروح) الذي نشره قبل ثورة يوليو 1952م، وكان فيه بمثابة الأب الروحي لتوجه يوليو الثقافي عن البطل والعادل، إلى كتابه (عودة الوعي) الذي كان بحق انتكاسة للوعي.
أثار لويس عوض في مقالاته التي نشرها في (الأهرام) بتاريخ 17 أبريل و20 أبريل، و11 مايو 1978م، موضوع انتماء مصر الفرعوني، وعاد إلى دعوته في الأربعينيات للتنصل عن اللغة العربية الفصحى، واعتماد المحكية المصرية في الكتابة والمخاطبات. وهو في مقالاته هذه شكك في عروبة مصر والقومية العربية، فقد ربط بين القومية العربية والعنصرية النازية، وذلك بمقالة له بعنوان (الأساطير السياسية)، ووصف العروبة بأنها (عروبة عرقية ولون من ألوان النازية).
يرى (رجاء النقاش) في كتابه سابق الذكر، أن العنصرية والنازية ترتبطان بالكيانات القطرية، والعصبويات الصغيرة، وليس في دعوة القومية العربية والعروبة.
فدعاة القومية العربية عرَّفوا العروبة باللسان والجغرافيا والمصالح المشتركة والمشاعر، ولم يقدموها كعنصر متفوق على الأمم، ولا رفضوا التزاوج بين العربي وغيره، ولا تمددوا في أراضي الأمم، وزعموا أن كل البلدان حرث للعروبة، كما ادعت النازية والفاشية وهي تحتل البلدان.
دعوات التفوق والعنصرية ارتبطت مع (مصر الفتاة) و(الحزب السوري القومي)، ومع (جماعة الإخوان المسلمين) التي كان مؤسسها حسن البنا معجباً في تنظيمه للكشافة، والتنظيم الخاص بالنازية الألمانية.
المشاريع الوحدوية العربية منفتحة على كل تجارب الأمم. ومشروع محمد علي باشا النهضوي كان نموذجاً للانفتاح على العلم والثقافات والأعراق والأمم. لكن توجه هذا المشروع نحو التنمية والاكتفاء وربط الأسواق العربية ببعضها، جعل البريطانيين يتحركون لضربه، وتم ذلك في معاهدة لندن عام 1941م، حين تحالف الغرب ضده، ومعهم روسيا، بحجة الوقوف مع تركيا، ضد استقلال المنطقة العربية ونهوضها.
وفي هذا السياق كانت ثورة الإمام محمد حميد الدين وابنه الإمام يحيى حميد الدين، ضد الأتراك، بغية الاستقلال الوطني لليمن، والدعوة إلى وحدة العرب في صيغة اتحادية تستوعب التعدد في المنطقة.
وهو ما عبر عنه الإمام يحيى في رسالة له نشرتها (العربية الفتاة) في العديد من الصحف العربية والأجنبية عام 1923م.
كان ساطع الحصري يُعَرِّف العروبة بقوله (إن كل من ينتسب إلى البلاد العربية، ويتكلم اللغة العربية، هو عربي، مهما كان اسم الدولة التي يحمل جنسيتها بصورة رسمية، ومهما كان أصله ونسبه وتاريخ أسرته… فهو عربي، والعروبة ليست خاصة بأبناء الجزيرة العربية، ولا مختصة بالمسلمين وحدهم، بل إنها تشمل كل من ينتسب إلى البلاد العربية، ويتكلم اللغة العربية، سواء كان مصرياً أو كويتياً أو مراكشياً، وسواء كان مسلماً أو مسيحياً، وسواء كان سنياً أو جعفرياً (شيعياً) أو درزياً، وسواء كان كاثوليكياً أو أرثوذكسياً أو بروتستانتياً، فهو من أبناء العروبة مادام ينتسب إلى البلاد العربية ويتكلم العربية).
كان إبراهيم باشا يقول (ما أنا تركي بل أنا ابن مصر، إن شمسها قد غيرت دمي وجعلتني عربياً قحاً).
لقد تنبه الإمام يحيى عام 1923م إلى النزعة الانفصالية لليهود عن أوطانهم، فكتب منبهاً أن هذه النزعة ستكون وبالاً عليهم، لأن حياتهم ومعيشتهم في الأوطان العربية والإسلامية أفضل لهم،  من أن يستخدمهم الغرب لخدمة مشاريعه، فتكون محرقتهم في فلسطين!
لم يلتفت (لويس عوض) إلى الفارق بين العربية الجاهلية بعصبويتها القبلية، وبين العروبة التي تطورت ونمت مع الإسلام، ومن ذلك تغير مفهومها عن العصبية المنتنة، أي دعوى الجاهلية التي أمرنا الرسول (ص) بأن ندعها، فهي منتنة، وقال لنا مستنكراً ورافضاً وغاضباً: أبدعوى الجاهلية تدعون؟ مؤكداً عروبة بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي: (أيها الناس: الرب واحد، والأب واحد، وإن الدين عند الله واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي). العروبة اللسان بما يعني الثقافة والمشروع.
ويستلهم ابن باديس قول النبي فيقول: (تكاد لا تخلص أمة من الأمم لعرق واحد، وتكاد لا تكون أمة من الأمم لا تتكلم بلسان واحد، فليس الذي يكوِّن أمة ويربط أجزاءها ويوحد شعورها ويوجهها إلى غايتها هو هبوطها من سلالة واحدة، وإنما الذي يفعل ذلك هو تكلمها بلسان واحد).
كان بنو أمية استمراراً للمفهوم العرقي للعروبة بدائرتها القبلية النتنة.
فقد كان الوالي الأموي يفرق بين المولى وزوجته، فهذا أحد الموالي خطب بنتاً عربية من (بني سليم) وتزوجها (فلما ذاع الخبر وعلم به الوالي الأموي، فرق بينه وبينها، وألهب ظهره بالسياط، وحلق رأسه ولحيته وحاجبه) [المرجع السابق، ص 48].
وكان الحجاج لا يسقط الجزية عن الموالي إذا أسلموا.
ويشير أحمد أمين، نقلاً عن (نهج البلاغة) لابن أبي الحديد، إلى أن (علياً بن أبي طالب كان لا يفضل شريفاً على مشروف، ولا عربياً على عجمي، ولا يصانع الرؤساء وأمراء القبائل، فكان هذا (آكد) الأسباب في تقاعس العرب عنه…). وحين طلب بعض أصحابه منه أن يستميل أشراف العرب وقريش بالمال، ويفضلهم بالعطايا على العجم، لأن معاوية يفعل ذلك، قال لهم: أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟