المقالات

مقاربة سريعة لشعار (يد تبني ويد تحمي)

الجديد برس : رأي

أحمد الحبيشي 

يثير الشعار الذي رفعه الرئيس صالح الصماد: (يدٌ تبني ويدٌ تحمي) عدداً من الإشكاليات والتساؤلات التي تستوجب مقاربتها بهدف بلورة رؤية واقعية لسبل وطرائق تجسيد هذا الشعار، على النحو التالي:
• تكشف التجربة السياسية اليمنية عبر مراحل مختلفة عن قصور واضح في إدراك فكرة بناء الدولة، فيما راج في أعقاب قيام الوحدة اليمنية عام 1990‏ شعار إعادة بناء الدولة كمصطلح وطني ثوري في صفوف النخب السياسية الصاعدة، التي أدرجته لاحقاً كعنوان ضمن مقررات الحوار الوطني 2013 ــ 2014، لكنه لم يترجم في الواقع العلمي.
•  اختزلت فكرة إعادة بناء الدولة في مشهد إعادة البناء السياسي وفقاً لآليات مرحلية فرضتها الطبقة السياسية المتصدرة للمشهد الوطني بعد الوحدة، والتي سرعان ما فشلت لكونها لم تعالج الاختلالات البنيوية والهيكلية في الدولة لاحقاً، بسبب لجوء الأوليغارشيات العسكرية والمشائخية والدينية الحاكمة إلى تفجير حرب 1994 وحروب صعدة الـ6!
•  بعد العدوان الأمريكي السعودي الإماراتي على اليمن، بدأ مسلسل الانهيار في مشاهد مرعبة كشفت هشاشة الدولة ككيان. وفي ظل هذا الوضع الذي وصل إليه اليمن ينكشف ارتباط الكثير من المعوقات الخاصة بإعادة بناء الدولة اليمنية، بالمعوقات التأسيسية وروافدها على امتداد أربعة عقود، كالثقافة والتجارب السياسية، وعلاقة الجغرافيا بالتاريخ القديم والحديث، والمعوقات الطارئة الخاصة بمسار النظام العائلي الأوليغارشي السابق!
• يشكل اليمن نموذجاً استثنائياً في التعاطي مع فكرة الدولة بالمعني المعاصر, فالمعوقات التأسيسية واكبت عملية تأسيس الدولة تاريخياً في طبعتها الحديثة منذ الاستقلال عن الاستعمار العثماني والاستعمار البريطاني، وظلت ملازمة لها، وهي تكشف في ذاتها عن عوامل الانهيار التي أدت إلى سقوط الدولة في اليمن شمالاً وجنوباً، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: عدم تجذر مفهوم الدولة الحديثة
لم تشهد الدولة في اليمن التطور الطبيعي للدولة المعاصرة, فظلت في الحالة الأولية للدولة بمكوناتها السياسية الحاكمة، وهي القبيلة التي تعد وحدة البناء السياسي في اليمن, وتجمع العديد من القبائل لتأخذ شكل الدولة القبلية, ولا تشكل المؤسسات الهيكلية للدولة أكثر من مجرد أنساق لتوزيع الحصص القبلية والنخبوية السياسية، فخلال فترة الحكم الجمهوري تكرس في ثقافة الشطر الشمالي من اليمن أن الحاكم الشمالي يجب أن يأتي من القبائل المركزية التي تقع في صنعاء ومحيطها، ويبقى في حماية القبيلة التي تؤمن له موقعه السياسي.
ثانياً: التجاذبات المحلية والإقليمية
•  ظل اليمن رهن التجاذبات الإقليمية والصراعات المحلية، فالحرب التي شهدتها اليمن في ستينيات القرن الماضي كانت تعبيراً عن صراع إقليمي, يعاد إنتاجه اليوم على نفس القاعدة مع تغيير في أدوار اللاعبين يواكب الظرف الإقليمي. وشكلت التداعيات المباشرة لهذا الصراع تأجيلاً لفكرة مشروع الدولة العصرية الحديثة، فليست هناك مؤشرات واضحة يعتدُّ بها في مرحلة الانتقال من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري، ومن الدولة الشطرية إلى الدولة الموحَّدة على مستوى البنى التحتية, فما زالت الدولة القبلية هي جوهر بنية الدولة بشكلها القائم في اليمن، وفي حالات ضعفها تظهر الانقسامات السياسية، وتظهر دويلات في أحشائها مثل انشقاق بعض القطاعات العسكرية الموالية للرئيس السابق علي عبد الله صالح من جيشه السابق، وتحوُّلها إلى ميليشيات تساند العدوان في عدن ومأرب وتعز وشبوة وأبين وحضرموت…
ثالثاً: ضعف المؤسسات السياسية
•  جاء الوهن الذي أصاب السلطة السياسية في اليمن على خلفية طول فترة الحكم العائلي الأوليغارشي، وانعدام القدرة لأربعة عقود من الزمن على تجديد الدماء السياسية في المجال العام، والافتقار إلى آليات التطور الهيكلي في مؤسسات الدولة السياسية، خاصة الحزبية منها. فتشكلت المؤسسات مثل البرلمان الذي جاء هو الآخر تعبيراً عن مجلس أوليغارشي في صورة مطورة نسبياً عن الأنماط التقليدية لمجالس القبائل في الأزمنة الغابرة تحت شعار (الذاتية اليمنية) الذي رفعه اليمين الجمهوري بعد المصالحة مع الملكيين عام 1970 برعاية المخابرات السعودية.
• في الاتجاه نفسه كان الحزب الحاكم عبارة عن منتدى أوليغارشي لتجسيد المحاصصات النخبوية، فيما كانت التجرية الحزبية خلال العقود الثلاثة والنصف الأخيرة متكلسة، وهي فترة كافية لظهور كيانات ناضجة سياسياً، إلا أنها ظلت انعكاساً لنفس الروافد التقليدية في الدولة، فقد تحولت الأوليغارشيات الحاكمة في الشمال والجنوب على حدٍّ سواء، إلى مجرد حزب حاكم بجوار أشكال كلاسيكية للتجربة الحزبية العربية القديمة بكل علاتها, من اليمين إلى اليسار, وهي لا تعكس قاعدة جماهيرية أو مشروعاً حداثياً، بقدر ما تعكس أطراً نخبوية قديمة ودوغمائية.
رابعاً: المحاصصة الأوليغارشية
•  وهي واحد من أخطر العوامل التأسيسية, حيث إن مؤسسات الدولة ولدت ضعيفة بالأساس, ولم يطرأ عليها التطور الذي يسمح لها بمعالجة الضعف والخلل الكامن فيها تدريجياً, فمؤسسات الدولة المركزية الأمنية والسياسية والاقتصادية والثقافية والمجتمعية خضعت لعملية المحاصصة القبلية، وبالتالي فرضت الأوليغارشيات المشائخية والعسكرية والدينية وصايتها علي الأطر السياسية والمؤسسية التشريعية والتنفيذية والقضائية في البلاد, وأضفت عليها تقاليدها وأعرافها الطائفية، دون إتاحة سياقات الحداثة التي عرفتها الدولة في العصر الحديث.
خامساً: غياب الجيش الوطني الحديث
• بالمعنى الشامل، لا يمكن التعامل مع الجيش الموروث عن النظام القديم في اليمن كمؤسسة، إذ لم يشهد تحديثاً حقيقياً تاريخياً طوال عهد النظام الجمهوري. والتطور الوحيد الذي طرأ عليه تجلى في فرع الحرس الجمهوري إلى حد ما ولأغراض سياسية تتعلق بدور نجل الرئيس وتطلعاته السياسية في وراثة الحكم.
•  لم تخضع تركيبة الجيش لقواعد منظمة ومهنية منضبطة، بل إن القواعد المقررة من السهولة تجاوزها لصالح تعضيد المصالح بين الأوليغارشيات الحاكمة. وفي مرحلة ما بعد تنفيذ المبادرة الخليجية في فبراير 2014 أضيف بعدٌ جديدٌ من الخلل البنيوي، وهو الدمج على أساس المرجعية السياسية والأيديولوجية، حيث دمج حزب الإصلاح، الذراع السياسية للإخوان المسلمين، عشرات الآلاف من عناصره في الجيش والأجهزة الأمنية والسلطة القضائية.
وعلى المنوال ذاته جرى توزيع المناصب في القطاعات العسكرية والأمنية والأجهزة السيادية من الأمن والمخابرات، حيث تبدأ المحاصصة هرمياً بتوزيع عائلي للمناصب الرفيعة، ثم تتدرج على حسب التوزيع القبلي والمناطقي، ونادراً ما تظهر الكفاءات في هذا السياق, وكان لهذه التركيبة أثرها الواضح في ضعف منظومة الجيش والأجهزة الأمنية في مواجهة التحديات الحقيقية لمنع انزلاق الدولة، فتحولت إلى مجرد أداة لتصفية الحسابات السياسية، وهو ما ظهر في صور الحروب الداخلية (حرب 1994 وحروب صعدة) التي شهدتها البلاد خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
سادساً: الاختلالات الجيوسياسية
• ظهرت مساحات التباين في المجتمع وكأنها زوايا حادة جغرافياً وديموغرافياً وسياسياً، مما أنتج حالة من عدم الانسجام الأهلي في المشهد اليمني. فهناك أنماط خاصة في الشمال، وشمال الشمال والجنوب.. وهذه الاختلالات الجغرافية شكلت تحدياً إزاء عملية تماسك جغرافية الدولة. فالوحدة بين الشمال والجنوب لم تنجح عملياً، بل ظلت مجرد وحدة شكلية، حيث زادت عملية الاحتقان الجنوبي تجاه الحكم الذي رأت فيه امتداداً للحكم الأوليغارشي السابق، بينما عرف الجنوب جانباً من شكل الدولة العصرية، فيما عززالعدوان السعودي الإماراتي دعوات رجعية تطالب بالانفصال.
• إلى جانب هذه الأسباب التأسيسية السابقة، هناك عوامل أخرى لاستمرار الفشل تشير إلى تكريس سيناريو الانهيار في اليمن، ومنها:
1 – استمرار العدوان السعودي وضعف فرص إقرار السلام في اليمن للعام الثالث على التوالي، وما يترتب على ذلك من تحديات تهدد مشروع إعادة بناء مؤسسات الدولة، وحماية وحدة وسيادة واستقلال البلاد.
2 – استمرار التجاذبات الاقليمية والدولية المرتبطة بالعدوان السعودي على اليمن.
3 – تنامي ظاهرة الإرهاب والتطرف، فهناك تغوُّل ملحوظ في المشهد اليمني لتنظيمات القاعدة وداعش… وهو سياق طبيعي في ظل البيئة الراهنة التي يغلب عليها طابع الفوضى الأمنية وغياب آليات المواجهة.
الخلاصة
في ضوء ما تقدم، لا يمكن الفصل بين العدوان بكل تداعياته وأهدافه التفكيكية من جهة، وبين شعار (يدٌ تبني ويدٌ تحمي) الذي لا يمكن فهمه خارج السياق الموضوعي لمنطلقات وأهداف ثورة 21 سبتمبر 2014 من جهة أخرى.
ومن نافل القول أن الثورة مشروع يقوم بالضرورة على الهدم والتفكيك. وإن أسباب قيام الثورة ــ أي ثورة ــ هي رغبة الجماهير وإصرارها على إحداث تغيير جذري في الدولة والمجتمع وبشكل فوري لا تدريجي.
قد يكون هذا التغيير في نظام الحكم، أو في توزيع الثروات، أو في النظام الاقتصادى، أو في قيم المجتمع. المهم أن الثورة لا تكون مستحقة لهذا الوصف إذا قامت بتغييرات تدريجية أو غير حاسمة، وإنما تكون عندئذٍ حركة إصلاحية.
لهذا فإن الثورات تعمل على تفكيك وهدم ما كان موجوداً من قبل، على أن يكون ذلك وفق رؤية فكرية ومنهجية ثابتة. وإذا لم تنجح فى تحقيق ذلك فإنها تُعرِّض نفسها لخطر أن تنفض عنها الجماهير التي ترغب في تحقيق تلك النتائج المشروعة، ويصبح أيضاً من الأسهل على خصومها أن يعيدوا ترتيب وتنظيم صفوفهم من أجل وقفها أو دحرها من خلال ما يعرف بالثورة المضادة والطابور الخامس.
لا ريب في أن دول العدوان والاحتلال تراهن على تحويل التوقف المؤقت للاقتصاد إلى تباطؤ وركود حقيقيين، واضطراب الأمن إلى انفلات وفوضى عارمة، والخوف من المستقبل إلى فقدان للثقة في المؤسسات الوطنية.
الثورات تقوم في النهاية لتحسين أحوال الناس، بكل ما فيها من حريات سياسية ومتطلبات معيشية، وليس لزيادة صعوبتها، والتأخير في إحداث هذا التحسين يعرض شعبية الثورة للخطر ويهدد بأن تنقلب الجماهير عليها وتعتبرها المشكلة لا الحل، وهو ما يسعى إليه الطابور الخامس والديسمبريون والرجعيون.
وفي مجال مكافحة الفساد يجب الفصل بين استمرارملاحقة الفساد القديم من خلال مؤسسات الدولة القانونية، وبين وضع نظام جديد للوقاية من الفساد في المستقبل، والعمل على إعادة الثقة للموظفين الحكوميين حتى يخرج الجهاز الإداري للدولة من حالة الشلل التي أصابته.
وفي مجال الاقتصاد يجب فصل ما يجري التحقيق بشأنه من حالات محددة للتربح والاستغلال عن اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية باقي الشركات والمشروعات والمساهمين فيها، والتأكيد على أن نشاطهم المشروع محل ترحيب وتشجيع من الدولة وأن استثماراتهم آمنة وليست موضع الريبة أو الملاحقة.
وفي مجال الأمن يجب التفرقة بين استمرار هدم وسائل ومؤسسات القمع والاستبداد، وبين إعادة هيبة الدولة ومعالجة الاختلالات في مجال تموينات الغذاء والوقود والغاز المنزلي بشفافية وحسم، وانتظام العدالة وحماية المحاكم والقضاة من التعدي عليهم والدفاع عن سيادة القانون الذي يمثلونه.
من نافل القول أن مسؤولية بدء مسار البناء ومسار حماية الوطن ليست مسؤولية المجلس السياسي الأعلى وحكومة الإنقاذ الوطني ومجلس النواب فقط، فهذا دورهم الطبيعي بدون أدنى شك.
هذه المسؤولية تقع قبل ذلك على رجال الأعمال ووسائل الإعلام، وصناع الرأي، والأحزاب السياسية والقبائل ومنظمات المجتمع المدني كلها. فالمطلوب هو إيجاد الحالة النفسية فى البلد والقناعة العامة التي تسعى للبناء وتنظر للمستقبل، بما يصنع البيئة المواتية لإعادة بناء مؤسسات الدولة ومواجهة تحديات العدوان واستغلال الفرص.
هذا الدور يجب أن تتشارك فيه كل قوى المجتمع، لأن إحداث هذا التغيير لا يأتي بقانون أو قرار أو بيان رسمي، وإنما يكون من خلال إرساء القناعة لدى الناس بأن الوقت قد حان لبدء عملية البناء بالتوازي مع مواجهة العدوان في جبهات القتال، والاستعداد للتفاوض على وضع نهاية مشرِّفة للعدوان والحصار. أما الاكتفاء بمسار التصدي للعدوان فقط فلن يترك في نهايته سوى المزيد من التضحيات والفرص الضائعة.