المقالات

حتمية المسار الثوري

الجديد برس : رأي 

محمد ناجي أحمد

حين يقرن بعض الكُتاب الحتميات في مجال العلوم الطبيعية بالحتميات في مجال العلوم الإنسانية، فهم يبنون تصورهم على مقدمة خاطئة، ليصلوا إلى حكم خاطئ، وهو أن نفهم الحتميات الاجتماعية، التي تبنى على ظروف موضوعية، وعمل تنظيمي، تتخلق فيه إرادة الإنسان وكارزميته.
لقد كانت ثورة 26 سبتمبر 1962م حتمية، وفقاً للعوامل الموضوعية التي تراكمت، سواء من حيث الصراع الذي كان يجري داخل مؤسسي المملكة المتوكلية، أو الصراع الذي انتقل إلى داخل الأسرة الحاكمة، حين تطلع سيوف الإسلام ليكون كل واحد منهم وريثاً للحكم، فبدأوا بالتواصل مع السعودية، والبريطانيين والأمريكيين، لدعمهم في الوصول إلى سدة الحكم.
وجاء إلى الحكم الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين مستنداً في إمامته على مظلومية قتل والده غدراً وهو في الـ80 من عمره، ومستنداً على المجتمع اليمني القبيلي، الذي كان يرى في قتل الإمام يحيى اعتداء على الدين وعلى شرعية الحكم.
كان صراع القوى الاجتماعية الممثلة بطبقة القضاة والمشائخ، ضد النظام المتوكلي، أساسه رؤيتهم لأنفسهم كأصحاب حق في الحكم.
لهذا كانت حركة 17 فبراير 1948م تجسيداً لطبيعة هذا الصراع وقواه الاجتماعية والسياسية، كونهم طبقة النبلاء، المعنيين بالحكم دون سواهم.
ومع الخمسينيات كان الموعد مع الجماهير العربية التي خرجت إلى الشوارع مطالبة بالحرية والعدالة والوحدة العربية، وامتد هذا الصوت الهادر من مصر إلى العديد من الأقطار العربية.
مع النصف الثاني للخمسينيات كان النظام المتوكلي مثخناً بالانقلابات والمؤامرات. وكان سقوطه يعتمد على فعل منظم، وعلى وفاة الإمام أحمد وغياب كارزميته الشخصية عن المشهد قسراً أو قدراً.
ينطبق وصف الإمام أحمد لابنه سيف الإسلام محمد البدر، حين كان متردداً في تعيينه ولياً للعهد، فقد كان غير مقتنع بكفاءته وأدائه، ويرى في شخصيته ضعفاً لايليق بمن يتطلع إلى الحكم. لذلك وصفه بـ(الباز) قطعة القماش، التي تحتاج إلى من يمسك بها من طرفيها حتى تظل مستقيمة، فإذا تركت سقطت كومة على بعضها. تجسيداً لهذا الوصف كان سقوط المملكة المتوكلية بعد أسبوع من وفاة الإمام أحمد.
لم يكن بمقدور الإمام محمد البدر الاستمرار في الحكم، وكان إسقاط حكمه من الحتميات. فالعوامل الموضوعية قد تراكمت، والتخطيط والتنظيم لإسقاط نظامه يجري على قدم وساق منذ عام 1961م. فصغار الضباط بتأثير من خطب جمال عبد الناصر، وانتمائهم للبعث وحركة القوميين العرب، وبتواصل ووعود من مصر، نظموا أنفسهم، وقرروا إسقاط النظام.
والسعودية، منذ ذلك التاريخ أيضاً، كانت قد قررت وتحركت، ومولت الخلايا والتشكيلات الاجتماعية والعسكرية لإسقاط البدر واختيار من تراه ضمن مصالحها. والأمريكيون كانوا حاضرين بخططهم من وراء ستار (النقطة الرابعة) وشركة التنقيب عن البترول.
إن القول بأن سقوط المملكة المتوكلية كان بسبب عدم امتلاك الإمام محمد البدر الأجهزة الأمنية، قول فيه تسطيح واختزال مخل، فلقد سقط الملك فاروق في مصر بتحرك لتنظيم الضباط الأحرار في ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، وكان لديه العديد من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية. كان فاروق يعلم بوجود تحرك داخل الجيش لإسقاط نظامه، ولم يكن البدر يجهل التحركات في الأوساط القبلية والقضاة وداخل الجيش، لكن المرحلة كانت مع موعد ووعد مختلف.
جاءت ثورة سبتمبر لتستمر في صمودها 7 سنوات عجاف في مواجهة الكيان السعودي، ولعل أمراء بيت حميد الدين استوعبوا منذ عام 1963م أن السعودية تستخدمهم في سياق أهدافها، لا لإعادتهم إلى الحكم!
ومن معطف سبتمبر كان الصراع بين كبار الضباط، ضد (تنظيم الضباط الأحرار) ذوي الرتب العسكرية الصغيرة، وباغتيال قائد التنظيم (الملازم علي عبد المغني)، بعد 10 أيام من الثورة، في مأرب، ثم استشهاد الملازم محمد مطهر زيد، وغيرهما، تم إخفاء وثائق التنظيم، بل والنفي التام لوجود تنظيم اسمه (الضباط الأحرار).
ثم كانت حركة 5 نوفمبر 1967م انقلاباً على الرئيس عبد الله السلال والنهج الناصري الذي كان يمثله.
من رحم ثورة 26 سبتمبر 1962م وأهدافها كانت ثورة 14 أكتوبر 1963م. من دار السعادة بصنعاء، ثم في تعز كان تشكيل الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن.
استمر اليمنيون منذ عام 1839م في مواجهة الاستعمار البريطاني، وواجهوه بالأسلحة النارية البسيطة، وبالعصي والرماح، ولم تطأ قدم الاستعمار إلى عدن وجنوب اليمن إلا على أجساد ودماء الشهداء، التي لم تنقطع، واستمروا بالتمرد والمواجهة أعوام 1940م، 1941م، 1856م إلخ. لم تنقطع تمردات القبائل اليمنية، ومواجهتهم للاستعمار البريطاني في جنوب اليمن. ومع النصف الثاني من الخمسينيات كان العمل النقابي، والحزبي، والمحيط العربي، يؤذن بتحول التمردات ضد الإنجليز إلى فعل ثوري منظم ومحدد الغايات.
استطاع اليمنيون إفشال سياسة تغيير خارطة السكان في عدن وحضرموت. سعى الإنجليز لتهنيد اليمن بتشجيع هجرة الهنود واستخدامهم جنوداً، واستخدام الصوماليين في سلك الشرطة. لكن اندفاع اليمنيين من منطقة الحجرية والبيضاء وإب إلخ، حافظ على الهوية اليمنية.
ومع استنفاد اليمنيين الأساليب السلمية المتاحة في الإضرابات والعمل الحزبي لحزب الشعب الاشتراكي، انتقل اليمنيون إلى الكفاح الثوري المسلح، والمنظم تحت إطار الجبهة القومية، التي تأسست وتحركت بفعل وعي وقيادات حركة القوميين العرب في اليمن.
امتزج الدم اليمني في عدن من عبود الشرعبي ومدرم، ومن فاعلية العمليات الفدائية بعدن بقيادة عبد الفتاح إسماعيل، وتحرك الثورة الشعبية من أرياف اليمن بقيادة سالم ربيع علي، وعلي عنتر، ومن حضرموت بقيادة علي سالم البيض والأشطل إلخ.
كان سلطان أحمد عمر وسعيد الجناحي ومحسن ومحمد أحمد راشد مع علي ناصر محمد وشايع ومطيع، في فعل ثوري يمني واحد.
حين نتحدث عن الثورة اليمنية (سبتمبر وأكتوبر والـ22 من مايو)، فإننا نتحدث بالأصالة عن فعلنا الثوري اليمني.
في هذا المسار يصبح وعي قائد حركة أنصار الله الأخ عبد الملك بن بدر الدين الحوثي، وتأكيده بأن حركة 21 أيلول 1914م هي في السياق والإرث الثوري اليمني، من أجل تحقيق أهداف 26 سبتمبر، و14 من أكتوبر و22 مايو، فهي قامت بحسب تعبيره من أجل إقامة النظام الجمهوري العادل، وتحقيقاً للعدالة بين اليمنيين، وبناء جيش وطني، وسيادة القرار على كامل الأرض اليمنية. وفي هذا السياق كانت كلمة محمد علي الحوثي في 21 سبتمبر بميدان السبعين، وكلمة صالح الصماد في 26 سبتمبر.
من هنا يصبح كل صوت ودعوى لاستعادة الماضي كسلطة اجتراراً للأوهام.
إعادة الاعتبار للتاريخ بقراءة تفاصيله بشكل موضوعي، وتوصيف الأحداث والأشخاص والتحولات كما هي دون تحيز أو هوى، من موجبات العمل البحثي، وأما محاولة تخليق الماضي كسلطة فذلك ليس سوى محاولة للإرباك يخدم في مآلاته قوى جمهورية 5 نوفمبر.
فكل نيل أو تشكيك بالثورة اليمنية يخدم في النتيجة الكيان السعودي وأهدافه في اليمن.