المقالات

القضية الفلسطينية في ميزان «حلب»

الجديد برس : رأي

عبد الرحمن نصار

أخطر ما يمكن الحديث عنه بعد هدوء الموج الهائج الناجم عن معركة حلب الأخيرة هو الارتدادات على القضية الفلسطينية، بعمومها أو بملفاتها التفصيلية، وذلك بعد الأداء الفصائلي إزاء هذا الحدث الكبير بأبعاده الإقليمية والدولية. ليس المقصد تقديم مقاربة عن تسلسل الأحداث في حلب، سواء المعركة نفسها أو حال المدينة طوال خمس سنوات مضت، رغم إمكانية تسجيل بعض الملاحظات، والسبب أن كل طرف داخل الاصطفافات الثلاثة الرئيسية: مؤيدو استعادة المدينة، ورافضو ذلك، وجماعات المجتمع المدنيّ، متمسك بروايته منذ ما قبل المعركة.

الغريب أن «الموج»، المشار إليه، بدأ يرتفع منسوبه في توقيت لم يكن متناسقاً مع طبيعة الأحداث الميدانية، فالتحشيد السياسي والعلمائي والإعلامي، وغيره، ازدادت وتيرته في وقت كانت فيه المعركة تضع أوزارها، وكان الاتفاق بين المتحاربين يدخل إطار التوقيع النهائي وتحديد زمن التنفيذ. هذا يثير سؤالاً مهماً: لماذا صرخ من احتجّ في فلسطين بعدما انتهت المعركة؟ ربما تكون الإجابة بسيطة، أو معقدة، لكنّ ما لا يمكن إنكاره أن «الغضب الشعبي» الذي قادته وغذّته حركة «حماس» أولاً، والتيارات الإسلامية الباقية كـ«حزب التحرير» والمجاميع السلفية الدعوية أو الجهادية وخليط من المستويات القيادية والمناصرين داخل «الجهاد الإسلامي» ثانياً، كان مرتبطاً بصورة أساسية بقرار إقليمي بالتصعيد، على نسق واحد سهل الملاحظة.

من الصعب على البيئات المجتمعية الفصل بين القضية الفلسطينية وتصرفات بعض الفلسطينيين

في تلك الأيام، ما بين ليلة وضحاها، لم يبقَ من أقاصي الخليج إلى المحيط، مركز أو مؤسسة أو حركة لها علاقة بالفكرة الإخوانية أو السلفية إلا وشارك في الحملة ضمن توقيت واحد، أكان ببيان أم بمسيرة أم بمؤتمر صحافي. هذا أيضاً يجرّ سؤالاً تالياً: هل القرار بالاحتجاج من أجل حلب كان قراراً فلسطينياً خالصاً اتخذه كل تنظيم أو جهة بحد ذاتها وانطلاقاً مما يراه مناسباً، أو أنه انخراط فعلي ومتواصل في مشاريع إقليمية ــ دولية سقط بعضها ويترنح الآخر؟ أياً يكن، يسهل على كل طرف الادعاء أنه ملِك نفسه وقراره ما دامت آليات المساءلة الشعبية عن قضايا أكثر حساسية وتتعلق بمصير القضية الفلسطينية نفسها غائبة ومغيّبة.
بعيداً عن الكذبة الأولى، بشأن الحياد ورفض التدخل في الشؤون العربية (راجع «الحياد الفلسطيني: الهرب المستمر إلى الأمام»، العدد 2738 في 11 تشرين الثاني 2015)، صار مرور أكثر من خمس سنوات على الأزمة في سوريا كفيلاً بإيضاح الصورة لمن لم تكن واضحة له، فضلاً على أن الأزمة السورية عُلّقت بعوامل خارج يد السوريين أنفسهم، ونحن ــ الفلسطينيين ــ أصحاب خبرة في فهم معنى تدويل القضية وماهية المجتمع الدولي وحساباته، لكن: ماذا عن تأثير موافقنا في القضية الفلسطينية وقطاع غزة الذي يمثل الوجه الإسلامي للتجربة الفلسطينية النضالية والسلطوية؟
إن أي موقف تتبناه، تدريجياً أو فجائياً، قومية أو جنسية ما من قضية معينة، يصير من الصعب تفصيله، لأن العموم يميلون إلى التعميم. الأمر نفسه ينطبق على معركة حلب، وأصغر الحسابات السياسية تشير إلى احتمال كبير لبقاء الدولة السورية، ما يعني أن للموقف الإسلامي السياسي الفلسطيني انسحاباً على فلسطين كلها، بما أنه يصعب على الأشخاص، أياً كان موقعهم وطريقة فهمهم، فصل القضية الفلسطينية عن أناسها، خاصة في حال كانوا من المشاركين سابقاً في قرار مكلف وصعب مثل المقاومة، وهو ما لا يحق للفلسطينيين إنكاره، رغم استمرار قيادة الخارج (المكاتب السياسية والأمانات العامة الملمّة بتفاصيل كثيرة) في أسلوب تعمية عيون الداخل عن بديهيات العلاقة وتفاصيلها، منذ ما قبل الأزمة وما بعدها.
أولى البوادر لتلك الانعكاسات كانت ظاهرة في حرب غزة عام 2014، حينما استغرق الأمر من عمر الحرب (51 يوماً) سبعة أو ثمانية أيام ليراجع جمهور المقاومة خارج فلسطين نفسه، ويعلن الانخراط النفسي والسياسي والإعلامي الكامل في تأييد فصائل المقاومة والناس في غزة، مقابل من بقي ــ هامش ذلك الجمهور ــ على موقفه دون تغيير حتى نهاية الحرب، وهؤلاء هم تحديداً من رأوا في الاعتقالات الأخيرة في غزة «على خلفية حلب» (راجع العدد 3059 في 16 كانون الأول 2016)، دليلاً دامغاً على ادعاءاتهم.
التوصيف السابق قد يجد ردّاً مقابلاً سهلاً، خاصة لدى من يرى في أحسن الأحوال أن بيئة المقاومة هي بيئة أقليات غير مؤثرة، رغم أن التاريخ المعاصر أظهر تأثيرها النوعي في مجريات القضية الفلسطينية. ربما أيضاً، يكون الردّ على شاكلة أننا لن نبيع موقفنا الإنساني تجاه الضحايا في حلب، بموقف سياسي نشتري فيه تأييد هذه البيئة أو جهدها السابق. هذا أمر مفروغ من المناقشة في منطقه، رغم أنه ليس من الحكمة زيادة الأعداء مقابل أنك أصلاً لا تكسب المزيد من الأصدقاء، ولا سيّما في حال كانوا على شاكلة تنظيم «داعش» أو «القاعدة»، أو حتى مجموعات «نور الدين زنكي المعتدلة»!
المقاربة الأسوأ هي أن الجيل اللبناني ــ لم نتحدث عن الشارع السوري بعد ــ الذي عاش تجربة «منظمة التحرير الفلسطينية»، بقي حتى رحيلها منخرطاً في القضية الفلسطينية، بل صاهر وناسب مقاتلين من المنظمة لم يكن يعرف سوى اسمهم الحركي دون اسمهم الحقيقي، وذرف كثير منهم الدموع على الحال التي وصل إليها المقاتلون الفلسطينيون حينما أُخرجوا قسراً من بيروت رغم السلبيات المسجلة في تلك المرحلة. أما اليوم، فينبت شعور بالكراهية الكبيرة لدى أجيال لم تعاشر البيئة الفلسطينية أو سيطرتها الجزئية في مرحلة ما. مع ذلك، هي تحمل شعوراً بالكراهية يتجاوز بكثير ما شعر به من وقع عليه ظلم فردي أو منظم سابقاً؛ السبب هو نظرتها إلى أن المنظمة، بكل ما كان فيها، لم تكن تلامس الأساس الوجودي لها، مقارنة بالمشاركة الآن في حرب تحمل في أحد أهمّ وأوائل عناوينها إبادة بيئات اجتماعية معروفة وواضحة.
وصل الجيل الصاعد عمرياً من هذه البيئة إلى مرحلة يُصدق فيها كل إشاعة عن مشاركة فلسطينية في ما يسمى الآن ظاهرة الإرهاب التكفيري، خاصة أن أيّ مسؤول فلسطيني، حتى من المستوى الثالث، لم يسعَ إلى الردّ على ما تقوله فصائل كبيرة في سوريا عن استفادتها ممّا ادعت أنه «خبرة فلسطينية في حفر الأنفاق». من جهة مقابلة، تخجل فصائل فلسطينية في سوريا من البوح بطبيعة مشاركتها في المعارك تحت عنوان حماية المخيمات؛ وبغض النظر عن مصداقية هذا الشعار، فإن مشاركتهم ــ لحسن الحظ ولسوئه ــ أنقذت الفلسطينيين السوريين داخل سوريا من موقف معادٍ لدى الحكم والبيئات الموالية، في مقابل أن «خبرة حفر الأنفاق» لم تنقذ طفلاً مريضاً وجريحاً من الذبح بالسكين!
رغم كلّ ما سبق، ليس هذا بيت القصيد؛ إنما تكمن الإشكالية الخطيرة في موقف البيئة العربية والإسلامية التي صار يسهل ــ للأسف ــ تسميتها بـ«البيئة السنية». في هذه البيئة، ثمة فئات عدة لعلّ أهمها: القوميون واليساريون، والمتدينون، والبيئة الشعبية العامة، والناشطون الإنسانيون. نبدأ من الفئة الأخيرة، فهذه لا مشكلة لديها في التأثر بما حدث في سوريا تجاه ما حدث ويحدث وسيحدث في فلسطين. هؤلاء جاهزون للبكاء على الإنسان في أي وقت وظرف، وهم فعلياً ــ خاصة المرتبطين بمؤسسات المجتمع المدني وبالمانحين الدوليين ــ لا يُعوّل عليهم في أي تغيير.
بالنسبة إلى الفئة الثانية (المتدينون)، هؤلاء لهم تفرعات كثيرة لكنّ الصنف الذي يظهر فلسطينيون كثر تعاطفهم معه، يُثبت منذ أكثر من أربعين سنة قبل الأزمة السورية برمتها، أن فلسطين خارج أولوياته، وأنه مستعد ليذهب ويحارب في كل مكان إلا فلسطين، وهذا الأمر أوضح من الشمس، ولا دلالة على شمس، بل لدى تيارات كثيرة تنظيرات عقائدية وفقهية تؤخر فلسطين، ليس إلى المرتبة الثانية، إنما إلى ما وراء الزمن.
أما الفئة الأولى (القوميون واليساريون)، فهي كانت قد اتخذت قرارها منذ اللحظة الأولى بالافتراق عن مواقف الإسلام السياسي وحركاته، ولم يظهر، ولن يظهر غالباً، عليها أي تغيير جذري في موقفها من القضية الفلسطينية.
الفئة الثالثة هي محل الخوف والخشية، خاصة أن وسائل إعلام عربية، حتى فلسطينية، قدمت في أولويات العرض حروب الإقليم على قضية فلسطين؛ تكفي الإشارة إلى قناة فلسطينية كانت تمتاز بنقل البث المباشر من ساحات المسجد الأقصى في الإفطارات الرمضانية، تخلّت ذات رمضان عن هذا الامتياز مقابل النقل من ساحة رابعة العدوية في مصر، لتعود وتتدارك الموقف بقسم الشاشة إلى نصفين أحدهما لرابعة والثاني للأقصى، فيما كان الصوت من نصيب النصف الأول!
هذه الفئة الشعبية الواسعة، التي تعرضت لتشويش كبير، باتت لا ترى بسببه التطبيع والتنسيق مع الاحتلال (بكل عناوينه بما يشمل المعارضة السورية المصنفة معتدلة أو جهادية) تطبيعاً مجرَّماً يوجب الإدانة والرفض. هذا إن لم يكن التطبيع سبباً في تغيير الموقف والاصطفاف، أو على الأقل اللجوء إلى دائرة الحياد.
إن تضخيم ما حدث في حلب، رغم الملاحظات المتعلقة بكمّ الصور والأخبار عما حدث هناك والتغطية على استهداف المسلحين في المدينة للمدنيين طوال خمس سنوات وإخلالهم بالاتفاق الخاص بنقلهم وغيرها من ملاحظات محقّة، يعني في أقل تقدير أن سكين الذبح الإسرائيلي عندما ستطاول غزة، لن تكون أقسى وأشد وقعاً على هذه البيئة بسبب الصورة التي نرسمها لها، علماً بأنها (البيئة «السنيّة») كانت تشكل دوماً امتداداً للفصائل الفلسطينية عامة، و«حماس» خاصة، كما لن يوجب ذلك منها إلا التعاطف البارد.
إن القول لأهل غزة من داخلها: انظروا إلى ما يحدث في حلب، إنه أكبر مما يرتكبه الإسرائيلي بحقكم ــ وهو ادعاء باطل وغير منطقي ــ يعني تهيئة نفسية لمن خارجها بغض النظر عما سيحدث، والذهاب إلى تساؤل داخلي يقول: لماذا سنطلب من إسرائيل أن تكون رحيمة بنا ونحن لسنا رحماء بين أنفسنا؟ لعلّ هذه أولى وأبسط نتائج الكذب والتضخيم ضمن مصالح سياسية بالدرجة الأولى.
وإذا تحدث قائل عن الموقف الديني أو الإنساني، فإنه فعلاً كان يمكن الاكتفاء ببيان واحد منذ بداية الأحداث لا السعي إلى تجزيء المواقف ثمّ تنظيم حملات وصرخات، لأن هذا التتابع يصنع في العمل السياسي ما يسمى الدفاتر المغلقة التي لها موعد لفتحها، فضلاً على ما يسببه تحشيد التراكمات داخل البيئات المجتمعية القريبة منا والبعيدة.
يكفي أن أكبر فصيل مقاوم في غزة، ويمثل القوة الحاكمة للقطاع، حشّد في ذكرى انطلاقته القضية المركزية صوب حلب، دون أن يرفع شعاراً مركزياً آخر، خاصة أنه في هذه السنة لم يحدث الناس أو جمهوره عن فك الحصار أو الأفق المعيشي أو فتح المعابر أو المصالحة أو الكهرباء أو حتى قضية الأسرى، بل ذهب إلى جعل الوجه المقاوم (المسلحين) يشاركون الجمهور في التفاعل رغم صدور تعميم مسبق من القيادة العسكرية بمنع المشاركة في أي حملات تتعلق بالشأن الخارجي، وفق بعض المعلومات الصحافية، لكن ما حدث كان العكس!
إن زيادة الأعداء صارت سلوكاً فلسطينياً عاماً بعدما شعر الفلسطيني بكمّ الغدر والخيانة لقضيته المركزية، بل ذهب إلى حدّ التفاوض مع الاحتلال من جهة، وبناء العلاقة مع من سوف يسلم رقبته للاحتلال من جهة أخرى. ومثلما تُحذَّر دول مثل الخليج والأردن وتركيا من تبعات الإرهاب ــ التكفيري الذي بدأ يلامسها، يخشى أن يأتي إلى غزة يوم شبيه، رغم أن الفارق الأساسي في ضبط القطاع هو المساحة الصغيرة له وكثافة مصادر المعلومة والأمن لدى الأجهزة المختصة، لكن: ماذا لو عمل التكفيريون على تغيير استراتيجيتهم يوماً ما ــ وهو ما بدأت علاماته بالظهور ــ ووجدوا بيئة جاهزة لقبولهم بعد هذا الضغط المتواصل من التأطير والتنظير؟ ربما يكون سيناريو مستبعداً وقد يوصف بأنه ضرب من الخيال، لأن هذا دوماً هو النوع المحبب لنا من التفكير، لكنّ التاريخ يؤكد أن من يزرع ثمراً فاسداً لا يحصد سوى الندامة، ونرجو ألا تكون.
أمّا عن الصّورة العامة للقضية الفلسطينية ونظرة العرب والمسلمين إليها بعد هذه الأحداث طوال ست سنوات مضت، وما يمكن أن يقال أو يفعل خلال أي حرب مقبلة على غزة، فإن الإجابة برسم من لم يكتفِ بالبيانات والمظاهرات، وأطلق أجهزة الأمن لترهب من خالف الجوّ الذي حشّد له، لو تلميحاً.
* المصدر : «الأخبار»